المدونة

السياسة والسينما وتجميل وجه الدولة العتيقة

هل السينما محض احتيال؟

يقول كارلوس زيفون صاحب رباعية مقبرة الكتب المنسية عن السينما على لسان بطل الرواية “بكل صراحة، اعتقد أنَّ الفن السَّابع محض احتيال، مجرد وسيلة لتغطية خداع العامة المسحوقة ولتجهيلهم أكثر بحقائق الامور، أسوأ من كرة القدم ومصارعة الثيران، تم اختراع السينما لخلق حشود من الأميين، ولم تتغير نواياها كثيرًا حتى بعد خمسين عامًا من ولادتها.“[i] ورغم مضي أكثر من 120 عامًا لاختراع السينما، ولا زالت أهم الأدوات التي تشكل الوعي الجمعي أكثر مما هي تعكس واقع المجتمع، ويتعدد استخدام هذه الأداة من صانعها فقد يولد الأحلام ويسكر الشعوب ويدوخها، يلد لها ذكريات زائفة ويقوي ردود أفعالها، يبقي جراحها القديمة ويعذبها وقت راحتها، يقودها إلى هذيان العظمة أو إلى هذيان الاضطهاد، يجعل حياة الأمم إما مريرة أو رائعة، لا تُحتمل أو تافهة، لأن السينما تتضمن  كل شيء وتقدم  الأمثلة عن كل شيء.

 

استخدام السينما في السياسية:

أدرك صُنّاع السينما قوة تأثيرها، لذلك تم استخدامها في المجال السياسي، كونها قادرة على إيصال رسائل إيجابية كانت أم سلبية أو تشكيل مجموعة أفكار لجلبها وقت الحاجة، وقد وعت الحركة الصهيونية لذلك منذ بدأ حراكها مطلع القرن العشرين، فقد تم إنتاج العديد من الأفلام الدعائية عن أرض الميعاد وكذلك أفلام مفادها أن فلسطين أرض صحراء خالية من السكان المتحضرين وأن اليهود عمّروها، وهذا كله قبل نكبة 1948م،[ii] وكان أثر هذه الأفلام المساهمة في جذب المستوطنين اليهود إلى فلسطين كما استطاعت التأثير على التصور العام لدى الغربي عن القضية الفلسطينية، وتزايد الإنتاج السينمائي خصوصًا بعد محرقة الهولوكوست التي وظفت سينمائيًا لكسب التأثير على نطاق واسع، ولُتحيك سردية جديدة لمخيال المشاهد عن الأرض وتاريخها، عن أحقية المستوطن المحتل على صاحب الأرض الإرهابي.

 

علاقة الدولة بالسينما في العالم العربي:

أما في العالم العربي فقد اقتصر علاقة الدولة بالسينما بالرقابة على الأفلام وفرض الضرائب والتركيز على الجانب الإيرادي في أغلب الدول العربية (مع وجود دول حظرت السينما لأسباب دينية وسياسية)، بينما الدور المناط للدولة أشمل من ذلك فيتوجب دعم صناعة السينما بما يخدم نهضتها ورفع مستوى الوعي الجمعي، كما تقوم في إثراء وجدان الشعب ورفع ذائقته الفنية وتصدير ثقافته في زمن العولمة، والسعي في التصدر العالمي بطرح أفلام تعالج  القضايا التي تهم المجتمع العربي وبناء وتدعيم الرواية العربية حول العديد من القضايا أهمها القضية الفلسطينية، ونظراً لفشل السينما العربية، فقد برز دور وسائل التواصل الاجتماعي في طرح هذه القضايا وتغيير الرأي الغربي حولها، لكنه لا يكفي  فدور السينما أكثر فعالية.

 

هوليود

 

تجربة مصر مع السينما:

وإذا ما عدنا للوراء لقياس تجربة الدولة العربية مع  السينما وتحديدًا مصر رائدة السينما العربية  والتي ما زالت إلى اليوم تتصدر الإنتاج العربي للأفلام والتي نتخذها كنموذج للدراسة، فمنذ بداية ولادة السينما في مصر عام 1927م نجد تدخل الدولة كدور رقابي، حيث ازدهرت السينما في عهد الملك فاروق، واقتصر إنتاج الأفلام لموضوعات الكوميديا والتسلية حيث كان الهدف الأساسي هو الربح وتقديم الترفيه للطبقة البرجوازية في مصر، كما ظهرت أفلام قليلة ناقشت بعض القضايا السياسية فتم تشديد قانون الرقابة على السينما، إضافة إلى منع التطرق للسياسة والمظاهرات وبعض المهن مثل ضابط الشرطة والباشا[1]. وبعد قيام ثورة يوليو عام 1952م، خطب اللواء محمد نجيب قائلاً: “السينما وسيلة من وسائل التثقيف والترفيه، علينا أن ندرك ذلك لأنه إذا ما أسيء استخدامها فإننا سنهوي بأنفسنا للحضيض وندفع بالشباب إلى الهاوية”[2]، لقد أدرك النظام الجديد أهمية السينما فحرص على استخدامها، فظهرت الأفلام الوطنية التي تعزز الوطنية وتمجد الثورة ومنجزاتها وتنتقد النظام البائد، وفي عام 1957م صدر قرار جمهوري بإنشاء مؤسسة دعم السينما مما ساعد على نشاط صناعة الأفلام، لكن ما لبث أن أممت الدولة صناعة السينما وعلى إثر ذلك أُنشِئت المؤسسة المصرية العامة للسينما عام 1962م، وقد أثر تدخل الدولة المباشر والاستحواذ الكامل على جميع الشركات المنتجة للأفلام على السينما سلبيًا، مما أدى إلى نفور العديد من العاملين في مجال السينما،  كما أُنتجت أفلام ممولة من المؤسسة العسكرية حيث ظهرت لنا سلسلة إسماعيل ياسين في الجيش والتي أريد بها تعزيز مكانة الجيش والحكومة[3]. ويتضح للمتابع بأن السينما المصرية منذ ثورة يوليو إلى عام 1970م لم تتعرض الأفلام التي أُنتجت في هذه المرحلة بالنقد للثورة وتجربتها.[4] وأما في عهد السادات فقد ظهرت أفلام تنتقد سياسة من قبله، وعقب اغتياله ظهرت أفلام تنتقد عصره ومصالحته مع العدو الإسرائيلي. أما المرحلة الرابعة التي سبقت الربيع العربي وثورة يناير اقتصر دور الدولة على الرقابة ومنع بعض الأفلام لأسباب تتعلق بالسياسة والدين والجنس، وبعد الثورة ظهرت الأفلام التي تنتقد حكم مبارك كما فعلت سينما ثورة يوليو مع الملك فاروق.

 

استخدام السينما في تشكيل الوعي السياسي لدى الأفراد:

ومما سبق يتبين علاقة الدولة بالسينما، حيث اقتصر استخدام أداة السينما سياسيًا لمهاجمة الخصوم أوو لتلميع وتمجيد النظام القائم أو أن ينتقد النظام اللاحق النظام السابق، مع تركيز شركات الإنتاج الخاصة على جانب الربح وتقديم أفلام  كوميدية تهريجية لأجل الربح في جميع المراحل الأربعة، ونرى بأن السينما المصرية هي النموذج الذي يقاس عليه سينما العالم العربي وكذلك سينما الدول النامية التي تتداخل بها أبعاد السياسة والفن والمجتمع مع نفوذ للبُعد السياسي على جميع الأبعاد. وما بين السينما والسياسة والدولة يأتي الفرد الذي من أجله صُنعت الأفلام وحاكها الساسة لخدمة أهدافهم، حيث أن مشاهدة الأفلام أو الذهاب إلى السينما يعتبر فعل ترفيهي كدرجة أولى لكن هذا الفعل مُحمّل بأبعاد أخرى، فبإستطاعة السينما أن تخلق المشاعر المختلفة للمشاهد، فالفرد حين ممارسة فعل المشاهدة تختلجه المشاعر التي يحملها الفيلم، فهو يضحك ويحزن ويخاف ويتخذ موقف من القضايا  أو يتفاعل معها حسب الرؤيا التي يطرحها المؤلفين، مما يعني قدرة صُناع الأفلام على التأثير المباشر في الوعي بمختلف مجالاته وخصوصاً الوعي السياسي لدى الأفراد[v].

رغم توظيف السينما سياسيًا إلا أن هناك أخرى مستقلة، وتسهم السينما إيجابيًا بالرغم ما تحمله من سلبيات فهي المخدر والعلاج، وهي سلاح الوعي حتى حينما تضلله، ويبقى السؤال الأهم هو كيفية صناعة المشاهد الواعي؟ الذي لا تنطلي عليه الأفكار المضللة عبر هذه الأداة الفعالة، قد يكمن الحل بجهد الفرد الذاتي عبر القراءة والتحليل وقد يكون عبر جهد مؤسساتي يضع على عاتقها إقامة مشاريع توعوية لصناعة المشاهد الواعي.

 

هوليود

هوامش:

  1. [1] كارلس زيفون، ظل الريح، ترجمة معاوية عبدالرحمن (تونس: مسكليناني للنشر والتوزيع، ط1، 2016)
  2. [1] مهند صلاحات، السينما في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي (https://cutt.us/lBMfd) 5-8-2021م.
  3. [1] محمود علي، مائة عام من الرقابة على السينما المصرية (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2008)
  4. [1] إسراء مقيدم، تأميم السينما (https://cutt.us/QTxBs ) 5-8-2021م.
  5. [1] محمودعلي، مرجع سابق
  6. [1] سمير فريد، “السينما والدولة في الوطن العربي”، تحرير عبدالمنعم تليمة، الهوية القومية في السينما العربية (بيروت: مركز الدراسات الوحدة العربية، ط1، 1986) ص 96.
  7. [1] ندى ياسر، توظيف السينما في المجال السياسي (القاهرة: المركز الديمقراطي العربي، 2019م).ش

فوزي الغويدي

باحث ماجستير تاريخ مهتم بتاريخ اليمن الحديث والخليج والعلاقة بينهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى