ترجمات

نظرة إلى الماضي

بيتر آدامسون يكتب عن الفلاسفة حين يكتبون التاريخ

النص 2

بقلم : بيتر آدامسون *

ترجمة: أحمد جمال أبو الليل

نشرت بدورية Philosophy Now العدد 149 صدور نيسان/أبريل – أيار/مايو 2022

لكوني مؤرخا للفلسفة أجدني منحازا إلى الفلاسفة الذين هم أنفسهم مؤرخون. وأنا لا أعني أولئك الذين يكتبون عن تاريخ الفلسفة، على الرغم من اعترافي بأنه لمدعاة للفخر والزهو أن يكون المرء رفقة قامات من أمثال جورج فيلهلم فريدريش هيغل وبرترند رسل. الذين أعني هم الفلاسفة الذين يكتبون تاريخا صرفا مباشرا، وهم عادة ما يحرزون صيتا وشهرة عن أعمالهم كمؤرخين بأكثر من أعمالهم كفلاسفة. وثمة أمثلة عديدة. ففي الفلسفة البيزنطية، ثمة مثالان مهمان هما ميخائيل بسيلوس(1) وآنا كوميني(2) ، وهما يشتهران لدى المتخصصين المعاصرين بالحقبة البيزنطية بكتاباتهما التاريخية. وينسحب الأمر أيضا على مسكويه(3)، وهو مجايل ابن سينا(4) العظيم، وإن لم يكن مبدعا أو ذا تأثير فلسفي طاغ كتأثير ابن سينا، إلا إنه قد كتب سفرا تاريخيا ضخما سماه كتاب “تجارب الأمم”(5)  (حوالي العام 1000 ميلادي)، وهو إلى يومنا هذا سفر يرجع إليه مؤرخو العالم الإسلامي.

فإذا ما انتقلنا إلى اللغة الإنكليزية، فالأرجح أن يكون توماس هوبز (1588 – 1679) معلوما لديك كونه واضع نظرية سياسية قوامها عقد اجتماعي جرى بلورتها لتلافي حدوث صراعات عنيفة. إلا إنه قد كتب أيضا باستفاضة عن صراع قد عاصره خلال سني حياته، ألا وهو “الحرب الأهلية الإنكليزية” (1642 – 1651). ثم هناك ديفيد هيوم (1711 – 1776).

فخلال حياته، كان هيوم على أقل تقدير مشهورا بكتابه ذي الستة أجزاء “تاريخ إنكلترا” (1754 – 1761) بمثل ما كان مشهورا فلسفيا. ولقد كان اقترابه للتاريخ، على نحو ما يكون لنا أن نتوقع من تشككي وإمبريقي شهير، مصطبغا بحس حذر ونقدي للدلائل. فحين تخبرنا البديهة أن إدعاء ما، قد ورد بنص تاريخي غير قابل للتصديق بأي حال من الأحوال (على سبيل المثال، الأعداد الضخمة من الجنود الذين حشدوا في معارك العصور الغابرة)، يكون لزاما علينا أن ننبذ القرائن كونها غير موثوقة. وهنا فإننا لنتذكر ما قاله هيوم بشأن احتياج ما يورد من معجزات لقرائن متعاظمة – وهذا ما يجب أن نتبعه. ومن بين ما ورد من معجزات قد سخر منها هيوم تلك التي أوردها مؤرخ العصور القديمة تيتوس ليفيوس (59 قبل الميلاد – 17 ميلادية).

هذا، وإنه لمن المرضي أن نشهد فلسفة هيوم يعكسها عمله كمؤرخ على هذا النحو. إلا أنه يجب علينا أن نسأل عن سبب رغبته هو وفلاسفة كثر آخرين في الكتابة عن التاريخ في المقام الأول. ولعل أحد الشكوك هو أنه فيما الحرب، وفقا لكلاوزفيتس(6)، هي استكمال للسياسة بطرائق أخرى، يكون التاريخ هو المضي قدما بالفلسفة السياسية بطرائق أخرى. هذا، وحيث أن الأعمال التاريخية القروسطية كانت قد كتبت في عصر كان قوامه الحكم الأوتوقراطي (أو على نحو أكثر تأدبا – الحكم الملكي)، فقد نحا الكتّاب إلى أن يضعوا شخوص الحكام في صدارة الأهمية. إن المؤرخين البيزنطيين المذكورين آنفا يمثلون هذه النقطة جيدا:إذ تنقسم “الكرونوغرافيا”(7) لبسيلوس إلى مجموعة من سير الأباطرة الذين ترتبط نقاط قوتهم وضعفهم أيما ارتباط بنجاح الدولة أو إخفاقها. أما آنا كوميني فقد كتبت تاريخا ارتكن إلى شخصية والدها الممتازة ألكسيوس. وبالمثل، أسبغ مسكويه من المناقب الحسنة على حكام من أمثال عضد الدولة (8)  وأبوالفضل بن العميد. إن الزعم الفلسفي الضمني في كل هذه النصوص هو أن الحكم الصالح هو الشرط الكافي والضروري لرخاء الدولة.

هذا، وإلى بزوغ عصر النهضة في أوروبا، ما كان إلا خيط ضبابي يفصل ما بين الكتابة التاريخية وما أطلق عليه كتب “نصائح الملوك”. ومن ثم، فقد كتب فيلسوف عصر النهضة ذو النزعة الإنسانية يوستوس ليبسيوس (1547 – 1606)، الذي اشتهر بإحيائه لمذهب الرواقية، عملين مترابطين، أحدهما عن الفلسفة السياسية واسمه “السياسة” (1859)، والثاني جمع خلاله أمثلة من الحكم الصالح يمكن للقراء النابهين أن يفيدوا منها.

أو فلنأخذ اسما أشهر من أسماء عصر النهضة : ماكيافيللي (1469 – 1527). إن أشهر أعماله قد كان مساهمته البغيضة في التقليد المعروف بكتب “نصائح الملوك”، كتاب “الأمير” وكذا “محاورات على تواريخ المؤرخ الروماني ليفيوس” (كذا، فقد كتب ماكيافيللي كتابا عن تاريخ فلورنسا).

أما “الأمير” و”المحاورات” فقد كانا متواشجين في انسجام. ففي “الأمير”، أوضح ماكيافيللي كثيرا مما كان يرمي إليه بأمثلة من روما القديمة. وكانت نصيحته الساخرة لتأسيس مستعمرات ثم استغلالها قد وردت بالتوازي مع ملاحظة أن الرومان قد أفادوا كثيرا من هذه الاستراتيجية. وحين شدد ماكيافيللي على الوتر الأوفر إلهاما الذاهب إلى تشجيع أمراء عصره للبحث عن المجد، فإنه قد نصحهم بمحاكاة حكام الماضي العظام. وبطبيعة الحال، فإن الأرجح كونهم لن يبلغوا ذلكم الشأو السامق، ولكن كمثل رماة السهام في تصويبهم نحو أعلى ما يستطيعون، فإنهم لن يعدموا إلى أن يصلوا إلى أقصى ما يمكنهم. وبالفعل ففي كتاب ماكيافيللي “المحاورات”، قد شرعنا نشهد هواجس وشكوكا بشأن ذلك الاقتراب للتاريخ كسياسة في ارتكانه إلى نهج الشخصية. وهنا فإن تفضيله للحكومة الجمهورية الرومانية قد أضحى جليا. إنه مثال باكر على استخدام التاريخ لتقصّي أنواع ناجحة من المأسسة السياسية عوضا عن تعلم السمات الفردية للحكام الناجحين.

إن هذه النزعة قد تطورت فنضجت بالكلية في عصر هيوم، الذي كان مهتما بالتأويلات الهيكلية الضخمة للتغير التاريخي. وبذا، فقد فسّر هيوم نمو الحرية في إنكلترا بالإشارة إلى تأثير انتقال الثروة مما عرف بالعالم الجديد، حيث شجعت تلك الثروة السراة والطبقات العليا على الوقوف بوجه التاج الملكي. وقد احتفل هيوم بهذا التحول بعيدا من أشكال الحكم الاستبدادي، أيا ما كانت مناقب الحاكم الشخصية، قائلا : “حتى حين اعتلت الملكة إليزابيث الخيّرة عرش البلاد، فإنه ما كان ثمة لحمٌ مشوي إلا لماما، وما كان ثمة حريةٌ على الإطلاق”.

إن القاسم المشترك فيما بين فيلسوف ومؤرخ أوروبي حديث مثل هيوم وبين أسلافه القروسطيين لهو الإيمان بأن بإمكان التاريخ أن يخبرنا عن الحاضر والمستقبل. إن خبرات الأجيال السالفة لتجلّي أنماطا لها صفة العمومية، إن لم تكن قوانين جديدة صارمة. وها هو ميكيافيللي يفترض أن أيا ما ثبت نجاحه مع الرومان قبل مولد السيد المسيح ليصدق نجاحه مع إيطاليي عصر النهضة، ووفقا لهذا الأساس، فقد تشكك الرجل حتى في مدى أهمية البارود. وها هو آدم سميث يثني على هيوم لإدراك قاعدة عامة ذهبت إلى أنه بتنامي حركة التجارة فيما بين البلدان، يكون الأرجح أن يسود السلام فيما بينها.

فما إذا كان لابد أن يكون هذا البحث عن أنماط لها صفة العمومية هو الهدف من فرع المعرفة الذي اجتذب هيوم وماكيافيللي وآخرين، لا يمكن حقا الإجابة. هنا يكون عليك أن تسأل لا مؤرخ الفلسفة، وإنما فيلسوف التاريخ.

الهوامش:

 * بيتر سكوت آدامسون (من مواليد العام 1972م) : أكاديمي أميركي وأستاذ فلسفة العصور القديمة المتأخرة والعالم الإسلامي بجامعة لودفيغ ماكسميليان بميونيخ، وكذا فهو أستاذ الفلسفة القديمة بكينغز كوليدج بلندن.

  1. ميخائيل بسيلوس : راهب بيزنطي وكاتب ومؤرخ وفيلسوف ومنظّر موسيقي، ولد في العام 1017 (أو 1018) وتوفي في العام 1078، وإن قيل إنه لربما مكث حيا إلى العام 1096. (المترجم)
  2. آنا كوميني (1083 – 1153) : أميرة بيزنطية، وهي مؤلفة “الألكسياد”، وهو تاريخ حكم أبيها الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس الأول الكوميني.  هذا، وتعد الألكسياد واحدة من أهم مصادر التاريخ البيزنطي في أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر الميلاديين. (المترجم)
  3. مسكويه (320هـ/421هـ – 932م/1030م) : فيلسوف ومؤرخ وشاعر فارسي. (المترجم)
  4. ابن سينا (370هـ/427هـ – 980م/1037م) : طبيب وفيلسوف ولد بالقرب من بخارى وتوفي في همدان (في إيران حاليا)، يعرف بالشيخ الرئيس إذ كان حاذقا بالطب ماهرا بعلومه وطرائقه. (المترجم)
  5. كتاب “تجارب الأمم” – ابتدأ فيه من الطوفان حتى العام 369هـ. (المترجم)
  6. كارل فيليب فون كلاوزفيتس (1780 – 1831) : جنرال ألماني ومنظّر حربي. (المترجم)
  7. الكرونوغرافيا هي تاريخ للأباطرة البيزنطيين على امتداد قرن كامل انتهى خلال حياة واضعها بسيلوس، ولعل الكرونوغرافيا هي أشهر أعماله  وقد اشتملت على إيراد سيرة 14 إمبراطور وإمبراطورة من العصر البيزنطي. (المترجم)
  8. عضد الدولة البويهي (937م/983م) : ثاني ملوك بني بويه. حكم من العام 951م وحتى العام 983م. (المترجم)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى