تتجلَّى عدوانية الاستثمار للفظ القرآني ﴿وَاضرِبوهُنَّ﴾ [النساء: 34] في تقديمه دليلًا قاطعًا على العنف الممارس ضد المرأة، والتمييز العنصري الأسري الإسلامي بحق النساء، وشيء من التورط المقصود في مضامين ودلالات النص الكريم.
ضخ دعائي كبير يتحدث عن منح الرجل سوطًا شرعيًا للاعتداء على مجتمع النساء كلما أراد واشتهى. في عملية صيد فكري يلقي في روع المرأة هذه الدعاية وينثر حولها الضباب.
وحتى لا تستمر تلك العصابات (الملثمة) في الاعتداء على النص القرآني لابد من توضيح الحمولة الدلالية الناظمة للنص، التي تداولها المشتغلون بأروقة الفقه والتفسير، وعلى ضفافها حررت الألفاظ فانداحت المعاني.
هل الضرب هو المفارقة؟
ثم إني اطلعت على محاولات بحثية قلقة وقعت تحت ضغط تلك الدعاية الحقوقية المعاصرة، ووطأة ذلك الضغط والإكراه الذي مورس على الوحي الشريف عند حدود هذه اللفظة، كبحث الدكتور عبد الحميد أبو سليمان ومن سبقه أو لحقه في ذات المسار؛ إذ لجأ إلى جلب معان مجازية لمدلول (الضرب) محاولًا بها الهروب من المدلول الحقيقي الفاعل في مادة (ض ر ب) ودلالتها المعجمية، وذهب يستدعي بعض الاستخدامات القرآنية للفظ (الضرب) مثل: ﴿أَن يَضرِبَ مَثَلًا ما﴾ [البقرة: 26]، ﴿وَيَضرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ﴾ [إبراهيم: 25]، ﴿وَاضرِب لَهُم مَثَلًا رَجُلَينِ﴾ [الكهف: 32] وغيرها. ثم الاتكاء على إملاءات المقاصد الشرعية الداعية إلى حفظ ذات الإنسان واحترام كرامته. وخلص إلى أن المقصود بالضرب في هذه الآية هو «مفارقة الزوج زوجته وترك دار الزوجية والبعد الكامل عن الدار». «ضرب المرأة» ص (36)، وهي محاولة خائفة مستلبة لا تخدمها الأداة اللسانية ولا يسندها النظام اللغوي، ولا تسعفها مسلمتا المقاصد والسياق.
فإذا تتبعنا انتشار اللفظة في الاستعمال القرآني سنجدها فاعلة في معنييها الحقيقي والمجازي بحسب السياق المعبر عن مفعولها ومدلولها في سلك الجملة القرآنية الحاملة للفظ، فأين نذهب بقول الله تعالى: ﴿فَقُلنَا اضرِبوهُ بِبَعضِها﴾ [البقرة:73]، ﴿فَقُلنَا اضرِب بِعَصاكَ الحَجَرَ﴾ [البقرة:60]، ﴿فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: 5012]، ﴿المَلائِكَةُ يَضرِبونَ وُجوهَهُم وَأَدبارَهُم﴾ [الأنفال: 50]، ﴿أَنِ اضرِب بِعَصاكَ البَحرَ﴾ [الشعراء:63]؟ وحمل اللفظ على مدلوله الحقيقي هو المقدم على الطاولة الأصولية.
معنى الضرب عند الإمام الراغب الأصفهاني:
وقد تمكن أستاذ المفردات القرآنية في القرن الخامس الهجري الإمام الراغب الأصفهاني (ت:502) من جمع تلك السياقات القرآنية الناظمة لمفردة الضرب في ضوء شخصية الكلمة وبنيتها اللغوية، فعرَّف الضرب بأنه: «إيقاع شيء على شيء»، «المفردات». ص (505). ومن مدلوله ذهب يُنزِّل كلا المعنيين الحقيقي والمجازي بحسب السياق ذي المكانة المرموقة في الحكم على اللفظ، الكاشف لحمولته الدلالية المختبئة في نظم الكلام. «فإذا كان التركيب يوجد داخل النص فإن الدلالة توجد داخل السياق» العروي، «دور السياق» ص (11)، فالوظيفة السياقية للخطاب «تتمثل في حجب تعدد المعاني في الكلمات، وتقليص الاستقطاب في أقل عدد ممكن من التأويلات» «الخطاب وفائض المعنى»، ص (45)، وهو يُعبِّر عن دور اللفظة القرآنية في أداء المعنى مع بقية اللفظات، وما يود ذلك الكلام المنظوم أن يقول، أو بوصف الدكتور أبو موسى «السياق قوة تحرك التركيب فينبعث من إشعاعاته ما يلائم». «دلالات التركيب»، ص (112).
إذن بات السياق معتمدًا رئيسًا عند المشتغلين بالنص القرآني لجلب المعنى القصدي الذي تتغياه الآيات القرآنية؛ إذ الاقتصار على اللفظ المجرد دون السياق الذي ورد فيه يمنعه التعبير عن دلالته الأصلية، ففاعلية السياق تتمثل في إنتاج الدلالة التي هي لب اللفظ والمقصود النهائي منه.
ثم إن المدلول المقاصدي لا يتم بهكذا افتعال، وإنما ينطلق من بين ثنايا المدلول اللغوي والسياقي، فالمعنى بعد إقرار حقيقته اللغوية ودلالته السياقية يتم تمريره وفق المقاصد الشرعية الداعية إلى تحويله من مادة للتأنيب إلى مادة للتأديب، ومن أداة للتنكيل إلى ذكر المقصود النبيل. كما سنبينه بعد قليل على لسان القاضي أبي بكر بن العربي (ت:543).
كيف ضبط الإسلام نظام العائلة؟
فأقول بعدئذ: ضبط الإسلام نظام العائلة، وجعله كيانًا متماسكًا منذ اختيار الزوجة إلى داوم العلاقة الزوجية أو انفصالها المُعبَّر عنها بلباقة اللفظ وجمال التعبير ﴿فَإِمساكٌ بِمَعروفٍ أَو تَسريحٌ بِإِحسانٍ﴾ [البقرة: 229]، فهو انتماء اختياري لا يقبل القهر والتسلط، وزُوِّد الزوجان مبكرًا بقيمتي (المودة والرحمة) الدالتين على وثوقية العلاقة، ومتانة الرباط والتماسك.
خلل الفهم وعدوانية الاستثمار:
ترك أولئك مثاليات البناء الأسري الإسلامي، وكميات الحلول الإلهية التفصيلية الفريدة المودعة ثنايا النص القرآني، المقدمة لفك مشاكل النظام العائلي وإبقاء انسجامه. واتجهوا دون مقدمات إلى الأمر (واضربوهن) ليجعلوه مادة إعلامية دعائية، ومتنًا حاسمًا يضخون تحت هالته الشروحات التي تمكِّنهم من سردية المظلومية النسوية؛ إذ القوانين المدنية الحديثة تحرر المرأة من مسؤولياتها الزوجية، وتطردها خارج الكيان الأسري إلى سوق العمل بحثًا عن الضرائب.
كيف تدرج القرآن الكريم في حل مشكلة النشوز؟
على أي حال، فلتوضيح ما يدلي به اللفظ القرآني من حمولة دلالية يكشفها السياق المنظم لتلك المفردات، ويحملها الفهم المقاصدي الناظم لنظام الأسرة في الكيان الإنساني كما يرسمه الوحي الإلهي بشقيه أقول:
يقول السياق القرآني: ﴿فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلغَيبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللّاتي تَخافونَ نُشوزَهُنَّ فَعِظوهُنَّ وَاهجُروهُنَّ فِي المَضاجِعِ وَاضرِبوهُنَّ فَإِن أَطَعنَكُم فَلا تَبغوا عَلَيهِنَّ سَبيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبيرًا﴾ [النساء:34]
في هذا النص من سورة النساء يضع التوجيه القرآني تدرجًا ثلاثيًا لإحدى أعنف المشكلات الأسرية التي تهدد التماسك الأسري وتعرضه للانفكاك والتشظي.
إن نشوب (النشوز)، وإطلال العناد والاستعلاء في سلوك المرأة مؤثر على صحة العلاقة الزوجية، ويحتاج إلى علاج صارم، خصوصًا إذا تحول إلى عصيان عام يسلمها للخراب.
لقد بدا العلاج القرآني تربويًا حساسًا يتناغم مع نفسية المرأة، ويكافح المرض في تطوراته الأولى، فمضى متدرجًا بالنصح والحوار والتحذير حتى إذا استنفد المسار كامل حلوله ولم يجد أذنًا صاغية كان الانتقال إلى الهجر المنزلي، وإغلاق أبواب الود؛ إذ تأثيرها على المشاعر أبلغ؛ حتى إذا استنفد المسار طريقه لم يبق إلا الضرب. وعلى مساربه تناول المشتغلون بالنص القرآني إجراءات التنفيذ مسنودين بالمقاصد الشرعية والتصرفات النبوية في الفعل والتطبيق.
ما المقصود بالضرب عندالفقهاء المفسرين؟
اتفقت كلمة المشتغلين بالتفسير القرآني ودرس الفقه مبكرًا على أن الضرب المقصود في النص ذات الفعل الحقيقي إلا أن ضبطياته المنسجمة مع قصديته وفحواه تؤطره بغير المبرح، المتواري عن الأماكن الحساسة، المبتعد عن الوجه، القائم على الحل التربوي لا الانتقام، الضرب بوصفه حلًا وليس الضرب بوصفه مشكلة، الضرب الذي يدفع بجهود الصلح والتصالح إلى الأمام. فيؤكد رائد التفسير القرآني في بلاد الأندلس القاضي عبد الحق بن عطية (ت:541) في مدونته التفسيرية النفيسة «المحرر الوجيز» أن «الضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح»، «المحرر الوجيز»، (3/137)، ويرسم هدفه شمس الدين القرطبي (ت:671) في موسوعته التفسيرية الفقهية «الجامع لأحكام القرآن» بـأن «المقصود منه الصلاح لا غير»، «الجامع لأحكام القرآن» (6/285).
وكان رائد الدرس الحديثي الأول محمد بن إسماعيل البخاري (ت:256) قد سجل بابًا فريدًا ضمن مدونة «الجامع الصحيح» مؤكدًا هذا الضابط مصطحبًا له في سياق الفهم والتفهيم فقال: «باب ما يكره من ضرب النساء، وقول الله تعالى (وَاضرِبوهُنَّ) أي: ضرباً غير مبرح» «الجامع الصحيح»، (7/88).
وعلق أستاذ المدرسة الحديثية في القرن التاسع الهجري الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت:852) صاحب أكبر الشروحات العلمية على نص البخاري على عنوان الباب بأن «فيه إشارة إلى أن ضربهن لا يباح مطلقاً، بل فيه ما يكره كراهة تنزيه أو تحريم» «فتح الباري» (15/603). ويضيف مشددًا «إن كان لا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير» «فتح الباري» (15/605).
وحدد محدث الكوفة في القرن الثاني الهجري عطاء ابن السائب الثقفي (ت:136) الأداة المستخدمة في الضرب؛ إذ رأى أن تكون «بالسواك ونحوه»، «جامع البيان»، (6/706)، وتقرير هذه الأداة يشير إلى فهم رمزية الضرب المحقق للارتداع والتأديب النفسي، بعيدًا عن ضرب التنكيل المدمر للشخصية الذي يدور في أخيلة الدعائيين.
وكان ابن عرفة المالكي (ت: 1230) قد أفتى في حاشيته المشهورة (بحاشية الدسوقي) بعدم جواز الضرب المتمادي، ووضَّح النتائج المترتبة على تنفيذه، فقال: «ولا يجوز الضرب المبرح، ولو علم الزوج أنها لا تترك النشوز إلا به، فإن وقع، فلها التطليق عليه والقصاص». «حاشية الدسوقي»، (2/343).
إن معيارية الضرب التي ساقتها المدونات العلمية والشروحات العلمائية تم استبعادها بفعل متعمد لإظهار نظام العائلة الإسلامي بصورة وحشية لصالح التمرد العدواني على هذا النظام.
الغاية من ضرب الزوجة الناشز عند الألماني المسلم مراد هوفمان:
ومن مجمل ذلك الحشد النقلي، يقرأ السفير الألماني المسلم (مراد هوفمان) في الضرب رمزية تأديبية لرأب الصدع في العلاقة الزوجية دفعًا للانفصال والتمزق، فيقول: «إن بيان القرآن الذي يبيح للرجل ضرب الزوجة الناشز، والذي يصر كثيرون على فهمه فهماً خطئاً في معظم الحالات، إنما يهدف إلى صيانة الحياة الزوجية، وحمايتها وتقويمها، كما تنص على ذلك الآية الرابعة والثلاثون من سورة النساء: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ [النساء: 34]. وتتفق السنّة والآثار الموقوفة جميعاً على أن المقصود هنا الإرشاد لإنقاذ كيان الزوجة التي يهددها الفشل، وألا يتسرع الزوج الغاضب لنشوز زوجته في تطليقها، ذلك أن أبغض الحلال عند الله الطلاق، كذلك فليس المقصود بالضرب البطش باليد أو بالسوط أو بأية آلة، إلا إذا كانت تلك الآلة لا تحدث أي جرح أو تسيل دماً، فيكون رمزاً للتأنيب والتأديب، كأن يضرب الزوجُ الزوجَة الناشزة بمنشفة أو مروحة من الورق ونحو ذلك». «الإسلام كبديل» ص (203).
إذن الضرب القرار الأخير في ثلاثية (الوعظ، الهجر، الضرب)، لإخماد ثوران التمرد على الحق الزوجي، وبتر الاستعلاء العنيد. لكن تفعيله يمضي منسجمًا مع المقاصد الإسلامية، مع استبعاد أن يكون النشوز مادة للمزايدة الزوجية، فيجعل الرجل من أي رفض منطقي من الزوجة نشوزًا يستحق العقاب. فهو وصف محدد مضبوط، غير خاضع للذوق والتشهي والمراوغة، والأسرة كيان مشترك قائم على التفاهم ورعاية حق الطرفين دون اعتداء، واستدعاء التحكيم من طرفي الأسرة؛ ليكون حاسمًا في صلاحية النشوز، وتعريفه وسقوط دعواه.
عطفًا على ذلك فقد سجل محدث الكوفة عطاء ابن السائب الثقفي (ت:136هـ) في القرن الثاني الهجري، – وهو من كبار فقهاء التابعين – موقفًا حاسمًا من الضرب، ودعم موقفه القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي (ت:543)، فمع تمادي الأزواج في الضرب دون انضباط، وتأثيرات الضرب على المقاصد الأسرية، وقدرة العناد في تثوير دوافع الانتقام عند الرجل قال: «لا يضربها وإن أمرها ونهاها فلم تطعه، ولكن يغضب عليها» فهو تشديد على ضبط النفس، والتزام مذهب الأخيار.
ويعلق القاضي أبو بكر بن العربي معجبًا مدللًا «هذا من فقه عطاء، فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب هاهنا أمر إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استؤذن في ضرب النساء، فقال: «اضربوا، ولن يضرب خياركم» البيهقي، «السنن الكبرى»، (7/496).. فأباح وندب إلى الترك». «أحكام القرآن»، (1/536). إن ابن العربي يرى أن الفعل مباح، غير أن القول والفعل النبوي ندبا إلى الترك انسجامًا مع القرائن والملابسات التي تفرضها البيئة والحياة الاجتماعية المتغيرة.
ويوسع رائد التفسير في القرن الرابع عشر الهجري العلامة محمد الطاهر ابن عاشور (ت: 1393) دلالة فهمه لكلام عطاء فيقول مؤيدًا مؤكدًا: «وأنا أرى لعطاء نظرًا أوسع مما رآه له ابن العربي: وهو أنه وضع هاته الأشياء مواضعها بحسب القرائن، ووافقه على ذلك جمع من العلماء، قال ابن الفرس: وأنكروا الأحاديث المروية بالضرب. وأقول: أو تأولوها. والظاهر أن الإذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة بين الزوجين، فأذن للزوج بضرب امرأته ضرب إصلاح لقصد إقامة المعاشرة بينهما؛ فإن تجاوز ما تقتضيه حالة نشوزها كان معتديًا». «التحرير والتنوير»، (5/43). فالأمر خاضع للذرائع سدًا وفتحًا بحسب مقررات الحال والمآل.
نبقى عند ابن عاشور الذي ذهب في موسوعته التفسيرية الفريدة «التحرير والتنوير» إلى ترجيح أن يتولَّى الضرب عند شخوص أعمدة النشوز ولي أمر المرأة فقط، لما رآه من نتائج الضرب المدمر للعلاقة الزوجية إن قام به الأزواج، وتأثير ذلك على متن الكيان الأسري، وما يقترفه الأزواج من ضراوة انتقامية إذا ضربوا. فبعد توجيه وقياس على نظائر مماثلة في احتمالية استيعاب الخطاب للأزواج وأولياء الأمور، خلص ابن عاشور إلى نتيجة ترجيحية حاسمة فيمن ينفذ الضرب، فقال: «وأما الضرب فهو خطير، وتحديده عسير، ولكنه أذن فيه في حالة ظهور الفساد؛ لأن المرأة اعتدت حينئذ، ولكن يجب تعيين حد في ذلك، يبين في الفقه؛ لأنه لو أطلق للأزواج أن يتولوه، وهم حينئذ يشفون غضبهم، لكان ذلك مظنة تجاوز الحد؛ إذ قل من يعاقب على قدر الذنب، على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لولا الضرورة، بيد أن الجمهور قيدوا ذلك بالسلامة من الإضرار، وبصدوره ممن لا يعد الضرب بينهم إهانة وإضرارا.
فنقول: يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها، ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيما عند ضعف الوازع». «التحرير والتنوير»، (5/43).
فهو يرى أن تنفيذ الضرب مهمة ولي أمر المرأة؛ إذ هو أحكم في استعماله، وأولى في تعقيل مادته، وتفعيل مغزاه من تهور الزوج المدفوع إلى شفاء غليله فيتجاوز، وهو ترجيح بديع.
ومهما يكن من شيء، فالمجازفة التي يقبل عليها المندفعون في تخطئة الفقه الإسلامي عمومًا وغمز النص القرآني خصوصًا أو تأويله خارج النظام اللغوي، لا تعدوا وفق تلك المدلولات والضوابط التي أدلى بها العلماء بالقرب من النص القرآني إلا نوعًا من التورط والادعاء.
وانظر كيف انتقد العلماء عميد المفسرين الإمام محمد بن جرير الطبري (ت: 310) وهم يكنون له جزيل الاحترام، حين ندَّ عن مورد اللسان العربي وذهب في تفسير (الهجر) تفسيرًا غريبًا لا تنسجم معه أساليب اللسان، وسياقات النص، ومقاصد الشريعة، فعند قوله تعالى: ﴿وَاهجُروهُنَّ فِي المَضاجِعِ﴾ [النساء: ٣٤] رفض الطبري كل الأقوال التي جلبها للتفسير عند هذه الآية في معنى ﴿وَاهجُروهُنَّ﴾، ورجح أن المعنى المستقيم مع اللفظ القرآني والسياق العقابي هو «أن يربطن بالهجار وهو الحبل في البيوت المراد بها المضاجع، وحصر الهجر في ثلاثة معان. فلا يصح أن يكون من الهجر الذي هو الهذيان، فإن المرأة لا تداوى بذلك، ولا من الهجر الذي هو مستفحش من القول، لأن الله لا يأمر به؛ فليس له وجه إلا أن تربطوهن بالهجار». «جامع البيان»، (6/706).
فهذا الذي صوبه الطبري عابه وأبطله المشتغلون بالنص القرآني، فالزمخشري (ت:538) عده «من تفسير الثقلاء»، «الكشاف»، (2/70)، وابن عطية (ت:541) اعتبر كلام الطبري في هذا الموضع غير محرر ولا دقيق، إذ قال: «وفي كلامه كله في هذا الموضع نظر»، «المحرر الوجيز»، (3/137).
أما القاضي أبو بكر ابن العربي (ت:543) فأطال في عتابه وتعجب أن يصدر هذا الفهم من شخص بمستوى الإمام الطبري وهو من هو لغة وفقه، فقال: «يا لها هفوة من عالم بالقرآن والسنة، وإني لأعجبكم من ذلك؛ إن الذي أجرأه على هذا التأويل، ولم يرد أن يصرح بأنه أخذه منه، هو حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك. وعجبًا له مع تبحره في العلوم وفي لغة العرب، كيف بَعُد عليه صواب القول، وحاد عن سداد النظر؛ فلم يكن بد والحالة هذه من أخذ المسألتين من طريق الاجتهاد المفضية بسالكها إلى السداد.
وإذا ثبت هذا، وكان مرجع الجميع إلى البعد، فمعنى الآية: أبعدوهن في المضاجع. ولا يحتاج إلى هذا التكلُّف الذي ذكره العالم، وهو لا ينبغي لمثل السدي والكلبي، فكيف أن يختاره الطبري». «أحكام القرآن»، (1/533).
وبعد، فهذه إطلالة موجزة على ما يحويه الفقه الإسلامي من بُعد إنساني، ومسلك اجتماعي، وميزان تربوي، مستدعى من تعاليم الوحي الشريف، بعيدًا عن المزايدات الانتقامية، والاستثمار العدواني، ورهاب التأويل المستلب عند حدود النص القويم.