فكر

أسباب التجديد والإصلاح في العصر الإسلامي الأول

التَّجديد والإصلاح الدِّيني في الإسلام (3-7)

التَّجديد والإصلاح الدِّيني في الإسلام (3-7)

إحسان باحارثة

تنوعت أسباب حركات التجديد والإصلاح الإسلامي في العصور الأولى وفقا للحاجة إليها في كل مناحي الحياة الخاصة والعامة؛ من المحافظة على سلامة مصادر الدين والشريعة، ومواجهة الانحرافات الفردية والعامة، وفساد الحكم والسلطان، وآثار الصراع على الحكم بين أفراد العائلات المالكة وبين حكام الإمارات بعد أن صارت القوة الحاكمة ضعيفة الإيمان والتقوى هي المهيمنة، وغلب التعامل بالسيف مع المعارضين والمنافسين، وتولى على الأمة حكام ضعفاء وصغار سن لا يتمتعون بمؤهلات الحكم، مما أضعف الوحدة السياسية للأمة الإسلامية، وظهور عصر الإمارات والدول الضعيفة في كل أنحاء بلاد المسلمين، وصيرورة مؤسسة الخلافة في الأخير مجرد اسم وشعار ليس إلا. ومجابهة التحديات الخارجية العسكرية. وإجمالا يمكن تحديد أبرز تلك الأسباب على النحو التالي:

– اهتمام المسلمين؛ في القرون الثلاثة الاولى؛ بحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية من الضياع والتحريف كما حدث مع الأمم الأولى (اليهود والنصارى).

– الاهتمام بنشر علوم الدين وكل ما يتصل بها من علوم مساعدة مما يسهم في المحافظة على رسالة الإسلام صحيحة نقية كما كانت في زمن النبي الكريم، وسهلة الفهم ودون أي غموض او احتكار العلم بها على نخبة من الناس.

– تعليم الناس واجبات دينهم من عقائد، وعبادات، ومعاملات، وأخلاق، ولغة، وتاريخ الرسالة، وكل ما يحتاجونه من علوم في دينهم ودنياهم على حد سواء.

– انحراف الحكم عن مبدأ الشورى، وسياسة أمر الأمة على نهج يخالف نهج النبوءة والخلافة الراشدة.

–  شيوع ممارسات الترف والفسق والانحلال الأخلاقي في قصور الحكم والأغنياء، وتبدد قوة الدولة وهيبة الحكام في التفاهات والشهوات المحرمة.

–  ظهور مذاهب الفلاسفة، والباطنيين، وغلاة الروافض، والملاحدة التي أفقدت الإسلام روحه الحقيقية، ولوثت صفاء عقيدته الواضحة البسيطة بتصورات فلسفية معقدة من وحي ثقافة الإغريق اليونانيين المجردة من وحي السماء، وحولتها من تصورات نقية سمحة إلى قضايا ذهنية تجريدية جافة تبعث على الشكوك ولا تزيد إيمانا ولا تحث على عمل.

– تعرض العالم الإسلامي وقلبه النابض في العراق والشام إلى غزوات همجية من قبل الصليبيين والتتار أكثر من مائتي عام متواصلة استهدفت العمران وكل مظاهر الحضارة في عواصمه وحواضره، ودمرت مراكز حضارته ومنابع الإبداع والتميز من العلوم والفنون والمكتبات والمدارس، وبشكل عام استنفذت قوى العالم الإسلامي وموارده المادية والمعنوية.

– ظهور المنكرات والانحرافات في السلوكيات الفردية لأسباب عديدة، وخاصة بسبب الترف والانغماس في التمتع بمفاتن الحياة الدنيا بإسراف منقطع النظير ويخالف الهدي الإسلامي المعتدل، وانتشار مغريات الحضارة التي نتجت عن التطور العلمي، وازدياد الثراء بسبب اتساع حركة الفتوحات وما جلبته من غنائم، والتأثر بسلوكيات الحضارات المجاورة، والممارسات الخاطئة في موضوع الرقيق التي صاحبت الفتوحات.

– ظهور المنكرات والانحرافات في السلوكيات الفردية لأسباب عديدة، وخاصة بسبب الترف والانغماس في التمتع بمفاتن الحياة الدنيا بإسراف منقطع النظير ويخالف الهدي الإسلامي المعتدل، وانتشار مغريات الحضارة التي نتجت عن التطور العلمي، وازدياد الثراء بسبب اتساع حركة الفتوحات وما جلبته من غنائم، والتأثر بسلوكيات الحضارات المجاورة، والممارسات الخاطئة في موضوع الرقيق التي صاحبت الفتوحات.

51176 أسباب التجديد والإصلاح في العصر الإسلامي الأول

ج/ تقييم دعوات التجديد والإصلاح في العصر الإسلامي الأول:

أولا/ أبرز الآثار الإيجابية لدعوات التجديد والإصلاح الإسلامي:

حققت دعوات التجديد والإصلاح الإسلامي في العصر الذهبي للتاريخ الإسلامي عددا من أنبل الأهداف الدينية والدنيوية، وكان من أبرز نجاحاتها:

1- المحافظة على مصدر الإسلام الأول: القرآن الكريم نقيا من التحريف والضياع أو التبديل، والاختلاط بغيره من المدونات كالسنة النبوية وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أجمعت الأمة الإسلامية – إلا الشواذ الذين لا وزن لهم- على صحة القرآن الموجود بين أيدينا بين دفتي المصحف كما ورد عن الرسول الكريم، وكما حفظه الصحابة الكرام في صدورهم أو كتبوه على عدة وسائط حتى تمت كتابته في عهد أبي بكر الصديق ثم توحيد الأمة على مصحف عثمان الجامع.(1)

2- المحافظة على السنة النبوية القولية والعملية والتقريرية، وتمييزها عن القرآن الكريم والمدونات الأخرى كأقوال الصحابة والتابعين وأحداث السيرة النبوية والدعوة الإسلامية، وابتكرت حركة التجديد الإسلامي علوم الحديث المختلفة (كما ذكرنا سابقا) لتوفير أقصى قدر من الأمانة العلمية يمكن أن يحققه البشر في التوثيق: سندا ومتنا.(2)

وكانت الثمرة الكبرى من حفظ القرآن والسنة النبوية أن حفظت أركان الإيمان والإسلام أي العقيدة الإسلامية في توحيد الله الخالق لا شريك له، ولا ند، ولا مثيل، ولا شبيه له من المخلوقات، وفي الإيمان بالبعث والحساب في اليوم الآخر بالروح والجسد، وأن الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام هو النبي الخاتم، والفرائض والأصول في العبادات والمعاملات والأخلاق، وسنن النبي الكريم في كل شؤون الحياة.. حفظت بحمد الله من التحريف، والتبديل، والضياع. ووضعت القواعد للتمييز بين الأصول العقائدية التي ينبني عليها صحة الإيمان والكفر التي لا يجوز الخلاف فيها، وبين الفرعيات التي تقبل تعدد الاجتهادات والآراء.

3- حفظ اللغة العربية لغة الوحي الإلهي، ولغة النبي الكريم والصحابة من الضياع والاندثار كما حدث مع لغات الوحي في الأديان السابقة. وحفظت مصادر اللغة في الشعر العربي القديم وشعر العصر الإسلامي مما ساعد على فهم تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية بدقة ومعرفة ما فيهما من أحكام، وأوامر، وتوجيهات أخلاقية، وأخبار السابقين من الأنبياء والأمم البائدة.  وقد نشأت لتحقيق هذه المهمة علوم خاصة باللغة وقواعدها النحوية، والصرف، والبلاغة، والعروض ومعاني الكلمات وأصولها. واهتم علماء اللغة بتوثيق الشعر العربي القديم وتحقيقه والتمييز بين الصحيح والفاسد المنتحل، ووضعت أعداد لا تحصى من المعاجم متنوعة المناهج عن كل كلمة في اللغة العربية.(3)

4- نشأت علوم شرعية عقلية عظيمة عملت على تأصيل القواعد الإسلامية في مجالات العقيدة، وعلوم القرآن، وعلوم الفقه وأصوله، والحديث رواية ودراية، والتزكية والاخلاق.

5- تأسست واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية في التاريخ البشري، وظهر أول مجتمع بشري بفضل الإسلام يقر بالتعددية الدينية والقومية واللغوية لجميع الشعوب التي تعيش في ظل الدولة الإسلامية، وعاشت هذه الأديان والقوميات في أمان وسلام، وحافظت على خصوصياتها الدينية والأثنية وتقاليدها وعاداتها.(4)

6- نشرت الإسلام والثقافة الإسلامية العربية في معظم العالم المعمور آنذاك من حدود الصين شرقا إلى إسبانيا وغرب أفريقيا غربا ومن قلب آسيا والبلقان إلى أعماق أفريقيا والهند.

7- المحافظة على الكيان الإسلامي من الضياع والذوبان في معظم أجزائه بسبب غزوات الطامعين مثل الصليبيين الأوائل، والمغول التتار.

0b5695d63164d9ba154a0e81bde6c8e2 أسباب التجديد والإصلاح في العصر الإسلامي الأول

ثانيا/ أبرز إخفاقات دعوات التجديد والإصلاح الإسلامي الأولى:

كما كانت لحركة التجديد والإصلاح الإسلامي ثمارها العظيمة في مناحي الدين والدنيا؛ فقد كانت لها إخفاقاتها أيضا المباشرة وغير المباشرة، وعلى سبيل المثال:

1- أخفق التجديد والإصلاح الديني في تقويم جهاز الحكم والخلافة وتنقيته من انحرافات الملك العضوض والاستبداد والسلوكيات المنحرفة، فضلا عن الالتزام بمباديء الشورى والعدل والمساواة، وإعادته إلى صورة الحكم الراشد الذي كان عليه الأمر في زمن الخلافة الراشدة، وظلت مباديء الشورى مجرد تنظيرات في كتب الفقه والعقائد.

وقد أدى ذلك الفشل على المدى البعيد إلى إضعاف المجتمعات الإسلامية، وتفكيك وحدتها السياسية، وإضعافها في مواجهة الغزوات الخارجية، وعانى المسلمون عناء خطيرا من الصراعات الدموية بين الملوك وحركات المعارضة، وتعرضت الدول الإسلامية إلى عدد كبير من حالات التمرد والثورة زادت في تفكيك الدولة والمجتمع الإسلامي، وعمقت من العداوات المذهبية والخلافات السياسية. (5)

2- وربما يجوز القول إنه كانت هناك مبالغة في أحيان ليست قليلة في ممارسة الحق المكفول للمسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواجهة أخطاء وانحرافات السلطان، وفي القضايا المتصلة بالحكم والخلافة والخلافات التي نشأت حولها، وحدثت تجاوزات مؤسفة أو عدم تقدير المصلحة العامة في أحيان كثيرة في كيفية مواجهة أخطاء حكام لم تصل إلى درجة من السلبية تستحق ما حدث في مواجهتها من تمرد وخروج بالسيف وسفك للدماء؛ مما أورث المجتمع الإسلامي مصائب كثيرة وانشقاقات ما يزال يعاني منها حتى الآن!

3- صاحب ظهور ذلك العدد الكبير من المذاهب السياسية والعقائدية المختلفة المتنازعة فيما بينها حول جوهر السلطة والحكم.. صاحب ذلك اتصاف بعضها بانحرافات عقائدية وسلوكية نتيجة للقمع السلطوي واضطرارها للتخفي والسرية، أو لوقوعها في حبائل الفلسفات المنحرفة والجماعات المعادية للإسلام من بقايا الإمبراطوريات والدول القديمة التي انتهى وجودها السياسي بالفتوحات، واعتناق شعوبها الإسلام، واندماجها في الحضارة العربية الإسلامية، فانخرط المنحرفون منهم وراء الفلسفات المنحرفة والمذاهب الشاذة.

4- لم تقم أي تحالفات وتعاون بين معظم المجددين والمصلحين وبين الخلفاء والحكام لضمان نجاح دعوات التجديد والإصلاح، وحمايتها من أي انحراف أو انقلاب عليها.

5- تسبب الانفتاح الفكري والتعددية المذهبية في حدوث انقسامات خطيرة في المجتمع الإسلامي بسبب تأثر كثيرين بالمذاهب الفلسفية مثل الفلسفات اليونانية والهندية بكل انحرافاتها العقائدية الخطيرة.

corte medina azahara k88G أسباب التجديد والإصلاح في العصر الإسلامي الأول

العوامل التي أسهمت في ديمومة التجديد الإسلامي:

أسهمت عدد من العوامل المهمة والحيوية – سواء تلك التي كانت من طبيعة الإسلام نفسه أو من آثار التجديد الإسلامي- في ظهور دعوات التجديد والإصلاح كلما دعت الحاجة إليها لإصلاح الأخطاء، وتقويم الانحرافات، وإحياء معالم الدين: فكرا وعبادات وأخلاقا، ومن أبرز هذه العوامل:

1- مباديء الاجتهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ظل كل من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومبدأ الاجتهاد يوفران طوال التاريخ الإسلامي الأسباب والدواعي المحفزة على التجديد والإصلاح: بصورة فردية أو جماعية، ومواجهة أي خلل وانحراف فورا، وإحياء معالم الدين، ودون حاجة لانقلاب ديني أو إذن من سلطة كهنوتية أو زمنية، أو مواجهة حالة احتقان عميق تهدد المجتمع والدولة وأمة الإسلام.

2- عدم وجود مؤسسة دينية مهيمنة

لم يعرف التاريخ الإسلامي وجود مؤسسة إسلامية أو كنيسة ذات سلطة كهنوتية تهيمن على شؤون الدين، وتتحكم في الممارسات الدينية للأفراد والجماعات وعباداتهم من الميلاد إلى الممات، وتمنحهم أو تسلبهم صفتي الإيمان والكفر، أو العفو والحرمان من خلال طقوس تتحكم فيها حصريا، وتمنع أي محاولة تجديد أو إصلاح خارج هيمنتها لمواجهة المنكرات والانحرافات، كما حدث في أوربا خاصة والمسيحية عموما (وكذلك اليهودية) لا باسم الله ولا باسم الرسول. وهاتان شهادتان على ما قلنا:

يقول برنارد لويس المستشرق المعروف في بحث له نشرته مجلة (التسامح) العمانية،2004، ص187:

– [.. صحيح أن هناك مسجدا وهناك كنيسة، والكنيسة تمارس فيها العبادة كما تمارس العبادة في المسجد إلا أن الشبه ينتهي عند هذا الحد لأن الكنيسة مؤسسة لاهوتية خاصة ذات علاقة خاصة بالله وبأسرار الديانة المسيحية وهو مالا يملكه المسجد فالكنيسة مؤسسة في المسيحية بينما العبادة ليست مؤسسة في الاسلام إلى أن ظهر ما يشبه المؤسسة في المسائل العبادية والسياسية في ايران مؤخرا من خلال ولاية الفقيه..]

ويقول المستشرق الشهير/ جوزيف شاخت، (نقلا عن كتاب د. محمد عمارة/ الإسلام في عيون غربية، ص180):

– [ في الإسلام لم يكن قط ما يشبه كنيسة فالشريعة الإسلامية لم تستند مطلقا إلى تأييد قوة منظمة، وعلى ذلك لم ينشأ قط في الإسلام اختبار حقيقي للقوى بين الدين والدولة، وظل المبدأ القائل بان الإسلام – من حيث هو دين ينبغي أن ينظم الناحية القانونية في حياة المسلمين- قائما لا يتحداه أحد.

2017 07 21 1 أسباب التجديد والإصلاح في العصر الإسلامي الأول

3- خلو الإسلام من فكرة عصمة العلماء وهيمنتهم على شؤون الدين

لم يعرف المجتمع الإسلامي عامة لا نظريا ولا عمليا – باستثناءات محصورة في طوائف الأقليات المنحرفة المعزولة غالبا- مبدأ العصمة الدينية للرموز الدينية فضلا عن الحكام والملوك تجعلهم في مرتبة نصف الإله، أو الموحى إليه الذي لا يرتكب إثما ولا معصية، أو لا يسأل دينيا عما يفعل، ويحتكرون الحديث في شؤون الدين والدنيا باسم الله والدين، والادعاء بأن مخالفتهم دينيا خروج عن الدين وهرطقة تسلب المرء إيمانه، وتجيز حرمانه من ممارسة شعائر دينه وواجباته الإسلامية.

وكذلك لم يكن للرموز الدينية خاصية في ممارسة التدين وشعائر الإسلام تجعل منهم أوصياء ومشرفين على الناس، وبدونهم لا يستطيع المسلم ممارسة شعائر دينه، وكما قيل فقد كان بالإمكان أن يحيا المسلم حياته  ويمارس شعائر دينه كلها دون أن يتصل بأحد من العلماء، أو حتى أن يراه مباشرة، لا فرق في ذلك بين الصلاة أو الصيام أو الحج أو غيرها من شعائر الدين، فضلا عن مجريات حياته بما فيها طقوس الولادة واعتناق الدين والزواج والموت التي يمكن إتمامها دون الحاجة لفقيه ولا مندوب الدولة، على العكس مما هو موجود وفق التقاليد الدينية المسيحية واليهودية حيث يجب أن تكون بإشراف الكهنة والحاخامات؛ وإلا لا تصح ولا تجزيء المسيحي أو اليهودي أبدا، وهذا هو السبب الأساسي الذي مكن الكنيسة والسلطة الحاخامية من التحكم في رقاب رعاياهم، وتهديدهم بالحرمان والطرد من رعاية الكنيسة أي الدين المسيحي، أو الطرد من الدين اليهودي؛ مما يعني عدم القدرة على ممارسة الواجبات الدينية!(6)

4- لا هيمنة لمذهب واحد وفكر واحد

كان المجتمع المسلم يعيش حالة نادرة – لم يعرفها دين سماوي أو أرضي قبله- من التعددية المذهبية، واختلاف الآراء وتنوع الاجتهادات في كل مسألة تقريبا من المسائل الدينية؛ بما فيها تلك الخاصة بالذات الإلهية مثل الخلاف بشأن صفات الله تعالى، ووجوده، وكلامه، وكتابه، وتفاصيل أخرى في غاية الدقة.. فضلا عن الاختلافات الفقهية في العبادات والمعاملات التي كانت واسعة حتى داخل المذهب الواحد!

وفي رحاب التعددية هذه نشأ عدد لا يحصى من المذاهب والفرق العقائدية والفقهية، ولم يكن الأمر بحاجة إلى استئذان بابا أو إمام فضلا عن ثورات أو تمردات أو سفك الدماء وزهق الأرواح! وكان بإمكان المسلم الانتقال من مذهب إلى آخر دون أي مشكلة أو قيود دينية أو سلطوية أو أي إجراءات دينية للحصول على موافقة أي فرد أو مؤسسة أو حاكم إن اقتنع بصوابية مذهب ما أو فكرة ما؛ فقد كانت تلك التعددية أقوى سبب منع الحاجة لثورة إصلاح ديني على الطريقة المسيحية فما حاجة المسلمين لثورة مثلها وهم قادرون على ممارسة الاختلاف الفكري المذهبي بأوسع معانيه، ولا توجد سلطة كهنوتية تستوجب التمرد عليها لإصلاح دين الفرد أو الجماعة؟

ولعل أوضح مثالين على ذلك ظهور فرقة الخوارج الذين اعترضوا على الخليفة علي بن أبي طالب في مسألة التحكيم، وأعلنوا خروجهم عنه ورفضهم له فلم يكفرهم ولم يحرمهم لا حقوقهم الدينية ولا حقوقهم المالية كأفراد في المجتمع الإسلامي طالما التزموا السلم ولم يعتدوا على أحد. والمثال الآخر في نشوء فرقة المعتزلة الشهيرة؛ التي يقال إن رائدها واصل بن عطاء لما اختلف مع شيخه الحسن البصري حول توصيف المسلم مرتكب الكبيرة انسحب من حلقة شيخه بعد أن أمره باعتزال مجلسه، واتخذ له مكانا بعيدا عنه يبشر بأفكاره فسموا المعتزلة، وهي الفرقة التي كان لها حيز كبير ومهم في تاريخ الفرق الإسلامية، والفكر الإسلامي.. فلم يكن هناك (بابا) معصوم ولا مؤسسة دينية تمنع ذلك وتحاسب عليه، وتحكم عليه بالحرمان من أن يؤدي عباداته وممارسة إيمانه، وقصارى ما كان يحدث هو تبادل التكفير والتفسيق بين العلماء والمفكرين.. والنماذج التي عرفها التاريخ الإسلامي لممارسات الاضطهاد الديني لأفراد أو جماعات كانت غالبا مرتبطة ببعد سياسي وصراع على السلطة أو خوف السلطان على ملكه من أفكار جماعة ما. وبمعنى آخر كانت صراعات سياسية تلبست بشعارات أو مبررات دينية لتمريرها في مجتمع يقدر الدين ولا يقبل التمرد عليه!(7)

5- لا هيمنة للهيئات الدينية على السلطة الزمنية والملوك والشعوب:

ولما كان التاريخ الإسلامي لم يعرف مؤسسة دينية كهنوتية معصومة؛ فلم يكن من الممكن حدوث هيمنة كهنوتية من قبل علماء الدين على السلطة الزمنية والملوك والشعوب، ولا كان لها الحق في تنصيب الملوك ومنحهم شرعية أو سلبها منهم، ولا كان لها سلطة في جمع الضرائب، ولا في إقامة المحاكم وتنفيذ الأحكام على الناس، ولم تفرض على الناس وصاية في حياتهم الدنيوية: العامة والخاصة؛ بل الذي  كان يحدث دائما أن الخلفاء والملوك والسلاطين – أصحاب القوة المادية والمالكين لأسباب الإغراءات- هم الذين كانوا يملكون القدرة على استمالة ضعاف الفقهاء إليهم واستخدامهم لدعم سلطانهم، وكثيرا ما وصف أمثال أولئك بعلماء السلطان، وأطلق عليهم شعبيا وصف علماء مدرسة ذيل بغلة السلطان، أي أنهم يصدرون فتاواهم وفق حركة ذيل البغلة السلطانية وليس فقط أوامر السلاطين! وأقصى ما حدث في هيمنة العلماء على الشؤون العامة هو ما حدث في بعض فترات التاريخ عندما كان الحكام فقهاء بحكم شروط مذهبية كما حدث في الدولة الهادوية الزيدية في اليمن!

وفي التاريخ الإسلامي مارس علماء كثيرون فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواجهة أخطاء الخلفاء والسلاطين وولاتهم، ورفضوا قراراتهم وما يجدونه منحرفا عن ثوابت الدين أو ما يرونه غير مناسب، وتعرضوا للاضطهاد والسجن، وحتى في عصور الضعف العام واستبداد الحكام العسكر – مثل زمن المماليك في مصر-  كان علماء الأزهر هم القادة المؤثرين في المجتمع، وكان الشعب يلجأ إليهم كلما واجه تعنتا ومظالم الولاة، وكان لهم دور كبير في مواجهة أخطاء قادة المماليك ورجالهم وتصرفاتهم وقراراتهم السلبية في حق الناس، وإجبارهم على التراجع عنها، وقادوا المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي من داخل جامع الأزهر، وكانت آخر أعمالهم هذه رفض قرار السلطان العثماني بتولية الوالي الجديد على مصر بعد هزيمة جيش نابليون وانسحابه من مصر، وأصروا على تعيين محمد علي الألباني – أحد العسكريين القادمين مع حملة تحرير مصر من الغزو الفرنسي- واليا على مصر، فاستجاب لهم سلطان إسطنبول، ودفعوا هم ثمن خيانة (الباشا) فيما بعد عندما نكل بهم، وتآمر على الأزهر، وأفرغه من دوره التاريخي في المجتمع المصري، وحوله إلى مؤسسة رسمية تابعة للحاكم!(8)

الهوامش:

  1. يمكن مراجعة كتاب اللاهوت والسياسة للفيلسوف باروخ سبينوزا، رائد مدرسة نقد الروايات التاريخية في العهد القديم أو التوراة، للتعرف على السلبيات الخطيرة القاتلة التي تسبب بها تحريف كل من التوراة والإنجيل وضياع أصولهما، وعدم وجود أي معلومات حقيقية وعلمية عن كيفية كتابتهما، وعمن قام بذلك، وفي أي ظروف تمت العملية. الكتاب تحقيق د. حسن حنفي، مراجعة د. فؤاد زكريا، ط2005، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، نسخة إلكترونية.
  2. من أفضل الكتب في تفهم الحركة العلمية الكبيرة والدقيقة التي شهدها المجتمع الإسلامي لجمع السنة النبوية وحفظها وغربلتها وتمييز الصحيح من غيره: مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، وكتاب حجية السنة للدكتور عبد الغني عبدالخالق من منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1986. والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي.
  3. انظر ما قاله الفيلسوف سبينوزا في كتابه/ اللاهوت والسياسة، الفصل السابع عن أهمية ودور اللغة الأصلية التي نزلت بها الكتب المقدسة في فهم مقاصدها ودلالات الكلمات مما لم يتوفر للتوراة والإنجيل وأدى إلى ظهور الانحرافات وتزييف العقيدة والتاريخ.
  4. انظر على سبيل المثال: مختصر قصة الحضارة ول ديورانت ص256 الجزء الثاني، وكتاب شمس العرب تشرق على الغرب للمستشرقة الألمانية هونجريد هونكة، دار الآفاق، والإسلام بعيون غربية بين افتراء الجهلاء وإنصاف العلماء، د. محمد عمارة، دار الشروق، ط1، 2005.

5- للدقة ينبغ الإشارة إلى أن كثيرا من عوامل الضعف والتحديات والانحرافات تلك كانت موجودة في المجتمعات الإسلامية في زمن دول الإسلام بشكل أو بآخر، وبنسب مختلفة من زمن إلى زمن، وقد نبه إليها النبي الكريم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان: [ كان الناسُ يَسأَلونَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الخيرِ، وكنتُ أسأَلُه عنِ الشرِّ، مَخافَةَ أن يُدرِكَني، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنا كنا في جاهليةٍ وشرٍّ، فجاءنا اللهُ بهذا الخيرِ، فهل بعدَ هذا الخيرِ من شرٍّ؟ قال: ( نعمْ ). قلتُ: وهل بعدَ ذلك الشرِّ من خيرٍ؟ قال:( نعمْ، وفيه دَخَنٌ). قلتُ: وما دَخَنُه؟ قال: ( قومٌ يَهْدُونَ بغيرِ هَديِي ، تَعرِفُ منهم وتُنكِرُ ). قلتُ: فهل بعدَ ذلك الخيرِ من شرٍّ؟ قال:( نعمْ، دُعاةٌ على أبوابِ جَهَنَّمَ، مَن أجابهم إليها قَذَفوه فيها). قلتُ: يا رسولَ اللهِ صِفْهم لنا، قال:( هم من جِلدَتِنا، ويتكَلَّمونَ بألسِنَتِنا).  قلتُ: فما تأمُرُني إن أدرَكني ذلك؟ قال: ( تَلزَمُ جماعةَ المسلمينَ وإمامَهم). قلتُ: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ؟ قال:( فاعتَزِلْ تلك الفِرَقَ كلَّها، ولو أن تَعَضَّ بأصلِ شجرةٍ، حتى يُدرِكَك الموتُ وأنت على ذلك).

ومما يستفاد من الحديث أن الشر بدأ في الظهور في عهد الصحابة (اختلافهم مع بعضه إلى درجة الاقتتال) وحرص النبي على التنبيه إليه لكيلا يفهم من وجوده ضياع الإسلام.. كما يستفاد أن الخير ظل موجودا في المجتمع المسلم في زمن ما بعد الخلافة الراشدة وأيضا تم التنبيه إليه لكيلا يفهم أنها عهود خالية من الخير.  ولكن لأن المجتمع المسلم كان قويا أيامها بإيجابياته العقائدية والأخلاقية وقيمه الروحية والفكرية العظيمة، ووحدته السياسية، وقوة الدفع الحضاري التي تولدت مع ظهور الرسالة الإسلامية، لكل ذلك فقد تغلبت عوامل الخير القوية على عوامل الشر، واستطاعت تحجيمها ومواجهتها فكريا وتفنيد أفكارها المنحرفة وحماية العقل المسلم منها إلى حد كبير.

6 في رأينا أن هناك اختلافا جوهريا بين كل من التكفير والحرمان والطرد من الكنيسة والدين اليهودي وبين مسألة تكفير المسلم؛ سواء أكان التكفير صادرا من قبل فرد وأفراد أو وفق فتوى دينية مدعومة من الدولة، فالشخص المسلم المتهم بالكفر يظل بإمكانه أداء واجباته الدينية دون استثناء دون الحاجة لمباركة أو موافقة من أحد، وأسوأ ما في الأمر الذي كان يحدث هو حبسه أو إقامة حد الردة عليه.. لكن لا أحد بإمكانه منعه من ممارسة واجباته الدينية إن أراد ذلك. وتقريبا لم ينج أحد من تهمة التكفير أو التفسيق والتبديع بمن فيهم معظم الصحابة في عصر الفتنة، ولا كبار علماء المذاهب!

7 يحضرنا هنا نماذج أربعة هي قتل الشخصيات الأربعة المؤمنة بفكرة القدرية وتعطيل صفات الخالق كما جاءت في القرآن، وهم: معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم، والجهم بن صفوان؛ فقد كان البعد السياسي هو السبب في قتلهم بأمر خلفاء بني أمية وكان البعد الديني هو الغطاء أو تهمة المعلنة، فالجهني شارك في ثورة عبدالرحمن بن الأشعث التي انتهت على يد الحجاج الثقفي وقتل فيمن قتل من العلماء الثوار بسبب مشاركته في الثورة وليس بسبب آرائه، وللرجل مكانة كبيرة لدى علماء الحديث الذي وثقوه وشهدوا له بالزهد والصدق.. وغيلان الدمشقي أثار حقد بني أمية في زمن عمر بن عبدالعزيز عندما كان يحرضه ضدهم ويطالبه بعدم الالتزام ببيعة وليي عهده، وعندما تولى مكافحة الفساد بأمر الخليفة باع ممتلكات بني أمية واصفا إياهم بالظلمة.. فلما تولى الخلافة من كان يحرض ضدهم انتهزوا الفرصة وقرروا قتله انتقاما منه وليس لآرائه الفكرية.. وللسبب نفسه قتل الجعد بن درهم للشك بعلاقته بغيلان.. أما الرابع وهو الجهم بن صفوان فقد شارك في ثورة الحارث بن سريج التميمي ضد بني أمية في أواخر أيامهم بل كان منظرا للثورة محرضا للخروج ضدهم، ولقي حتفه في المعركة الأخيرة. 

ولعل مما يعزز هذا التفسير أن المجتمع المسلم كان يزخر بكثير من الرموز والمفكرين ممن كانوا يتفقون في آرائهم مع هؤلاء الأربعة المذكورين بشأن مسائل القدر، وتأويل أو تعطيل صفات الخالق، ومع ذلك لم يتعرضوا لمكروه، ومنهم واصل بن عطاء رأس المعتزلة. وقد قرأت كتيبا لأحد أساتذة الفلسفة المصريين يفسر فيها ما حدث من اضطهاد للفقهاء على أيدي المعتزلة في عصر الخليفتين المأمون والمعتصم بأنه كان نتيجة خوف السلطة من تزايد نفوذ الفقهاء بين العامة الذي اكتسبوه بسبب قيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمواجهة المنكرات التي شاعت في مجتمع بغداد بسبب عصابات الزعران والشطار (اللصوص) وانتشار المفاسد الأخلاقية مع تساهل السلطة في أداء واجبها.. وللأسف فإن الكتيب لا يوجد بين يدي حتى أوثق ما فيه، ولعل الفرصة تسنح لذلك قبل نشر المقال. 

وحتى ما تعرض له بعض المعتزلة في عهد الخليفة العباسي المتوكل بعد انقلابه عليهم وتجرديهم من سلطتهم ونفوذهم في الدولة كان محصورا بالمجموعة التي ارتبطت بالسلطان والخفاء المؤيدين لآراء المعتزلة في مسألة خلق القرآن، حيث تولوا جريمة اضطهاد المعارضين لهم من علماء وفقهاء أهل السنة والجماعة كما لم يعرف المجتمع الإسلامي مثيلا له من قبل.. أما من كان منهم بعيدا عن السلطان والحكم، واقتصر نشاطه على الجانب الفكري فلم يتعرض لأذى مثل المعتزلي الشهير الجاحظ، والفلاسفة الذين كانوا أشد انحرافا من المعتزلة بل لا يمكن المقارنة بين الطائفتين، وقد بدأ زمنهم الحقيقي منذ عهد المتوكل نفسه بظهور الفيلسوف الكندي فقد كان المعتزلة يكفرون الفلاسفة. 

8- انظر كتاب ودخلت الخيل الأزهر لمحمد جلال كشك الذي نقل كثيرا من عمليات تصدي علماء الأزهر لمظالم المماليك نقلا عن تاريخ الجبرتي، ط1، 1972، مكتبة وهبة، مصر.    

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى