فكر

علم التخاطب الإسلامي: قراءة وعرض موجز للكتاب

إطلالة:

«ينبغي أن يلاحظ أنَّ هناك أوجه شبه بين التمييز المعروف في اللسانيات الحديثة بين علم الدلالة، وعلم التخاطب من جهة، وتفريق علماء الأصول بين الوضع، والاستعمال من جهة أخرى: فالوضع، والدلالة كلاهما يتعلق بدارسة المعنى المجرد عن السِّياق: إذ الوضع يدرس نسبة الألفاظ للمعاني، وعلم الدلالة يهتم بدراسة المعنى، أما علم التخاطب فيعني حرفيًّا علم الاستعمال. وبينما صار علم الدلالة، والتخاطب فرعين للسانيات، أصبح الوضع فقط علمًا مستقلًا من علومِ اللغةِ العربيَّة».

❃❃❃

من البحوثِ الجادَّة التي تنتمي لحقل الدراسات البينية: علم التَّخاطب الإسلامي – دراسة لسانية لمناهج علماء الأصول في فهم النص، د. محمد محمد يونس، دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى، 2006م.

وقد أعجبني كثيرًا وعي المؤلف الجيد بطبيعة وإدراك حقيقة العلمين، ومساحات الاتصال والانفصال بينهما، سواء في مجاله الذي أطلق عليه التخاطب، أو علم أصول الفقه، فكان مدركًا بأن العلاقة لن تكون على سَنن واحد، رغم التقارب في الفكرة عمومًا بين المجالين في معالجة قضية المعنى وتلقي الخطاب.

وفي ذلك يقول: «ينبغي للمرء ألا يتوقع أن أصول الفقه هو النظير التقليدي لعلم التخاطب الحديث»، وفي موطن آخر يؤكد: «أنه لا يمكن أن ندرج كل أفكار الأصوليين في هذا المجال؛ وذلك لأنَّ الفكر الأصولي يحتوي على عدة سمات على صلة بالعربية أو الثقافة الإسلامية أكثر منها بالسمات البنيوية المنطبقة على كل اللغات، وبالقضايا التخاطبية المنطبقة على كل الثقافات».

وفي سياق آخر يقول عن نفسه: «عليَّ أن أعترف بأن معرفتي بالعناصر الأساسية لعلمي اللسانيات، والتخاطب المعاصريْن ساعدتني كثيرًا على فهم النظريات التخاطبية الإسلامية»، ويقول: «حاولت جاهدًا أن أحافظ على وسائلي الفنية الخاصة، وتصوراتي النظرية للأفكار الأساسية التي تضمنها هذا العمل، متجنبًا فرض العناصر الجوهرية للنظريات التخاطبية الحديثة على أفكار الأصوليين المتصلة بموضوع الدراسة. ولن يكون هذا ممكنًا إلا باللجوء إلى مصطلحاتهم الخاصة».

فهذه جملة من التنبيهات السديدة من المؤلف التي يجب أن تكون نهجا ظاهرًا في الدراسات البينية؛ لأنَّ العلوم والتخصصات لكل منها سياقاته العلمية المعتبرة التي يحسن الوعي بها، وعدم الخروج عنها إلا بمسوغات أخرى علمية أرجح منها وأبين، ولا يُتمحّل في صلة بعضها ببعض بأدنى مناسبة دون تمحيص أو معرفة، والعاقل لا يتجاسر على خوض ما ليس له به علم ولا سابق اختصاص.

ومثل هذا الوعي وامتلاك الرؤية في الطرح جدير بأن يُسلك في كل دراسة، وهو يفتح للقراء والدارسين الكثير من الآفاق البحثية في توظيف العلوم بعضها مع بعض، وصلتها بالواقع ومخاطبات الناس، وهي تصلح كأنموذج راشد لقيمة التفكير البيني ودوره في تنمية الملكات العلمية، وفحص الأفكار.. وقد ذكرت بعض الأفكار والتنبيهات حول الدراسات البينية من وحي التراث في كتاب: سؤال التداخل المعرفي، وهو مطبوع متداول.

تنبيه للقارئ:

قولي ذكر المصنف، أو يقول، أو أشار، لا يلزم من ذلك كله النقل بالحرف، فقد أُدخل من ألفاظي ما ليس للمؤلف، حتى لا يكتفي الناقل لكلامه بهذا الملخص، فمن أراد النقل الحرفي عن الباحث فليعد للأصل وهو متداول (ولله الحمد) ورقيًّا وإلكترونيا.

❃❃❃

فصل المقدمة: (ص25).

تناول الباحث عدة موضوعات تمهيدية في نظرية الفهم والوصول للمراد من الخطاب، والوقوف مع بعض المفردات كـ«الفقه»، والإشارة لمفهومه الذي يتمحور حول: معرفة قصد المتكلم؛ وبذلك يُعد علم أصول الفقه البوابة الرئيسة والمدخل السليم لإدراك مقاصد الوحيين، فعلماء الأصول استوعبوا المعاني المعجمية، ثم أضافوا عليها من الأدوات ما يتسق مع خطاب الوحي.

ثم ذكر المؤلف التقسيم الكلي الذي يراه لمناهج الأصوليين التخاطبية في دراسة التخاطب [وهو فيه أقرب للسياق العقدي منه إلى الفقهي!]، وجعله في منهجين:

– منهج الجمهور الذي اتبعه الأشاعرة، والأحناف، والمعتزلة. 

– المنهج السلفي الذي كان الحنابلة أبرز من اتبعه، ونصره ابن تيمية.

ونصَّ على العنصر المميز بينَ المنهجيْن: وهو «تحييد الفرق بين الوضع والاستعمال» في المنهج السَّلفي بخلاف الجمهور.

وقد اجتهد في عرض كل مذهب، وصوغ آرائه ضمن إطار فكري، وفحص وجهات نظرهم في عدد من فصول الكتاب. وابتدأ بأولى عتبات فهم المعنى الذي يُعد محور الدراسة وأطروحته الرئيسة في الفصلِ التالي:

التخاطب الإسلامي قراءة وعرض موجز للكتاب6 علم التخاطب الإسلامي: قراءة وعرض موجز للكتاب

الفصل الثاني: الوضع والاستعمال: (ص43).

وأظهر أنَّ اللسانين ليسوا بأكثر من علماء أصول الفقه في الحديث عن مستويات اللغة والكلام عبر مصطلحاتهم الخاصة، يقول: «وقد تثار قضية أن الأصوليين كانوا على دراية، وربما على نحو أقل من اللسانيين بالفرق بين مستويي اللغة والكلام، بيد أن الواقع أنهم كانوا أكثر عناية بالتفريق بين ما يسمونه الوضع، والاستعمال. وهما اثنان من المكونات الأساسية الأربعة لعملية التخاطب، والاثنان هما الآخران هما الدلالة والحمل».

– وتحدث المؤلف عن معنى الوضع عند الأصوليين، واعتمد على الإمام القرافي، مثل قوله: [الوضع يقال بالاشتراك على جعل اللفظ دليلاً على المعنى كتسمية الولد زيدا، وهذا هو الوضع اللغوي، وعلى غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه من غيره، وهذا هو وضع المنقولات الثلاثة: الشرعي نحو الصلاة، والعرفي العام نحو الدابة، والعرفي الخاص نحو الجوهر والعرض عند المتكلمين].

وتطرق لأقسام الوضع، وإشكالياته والأثر الكلامي فيه، وعلاقة المفردات بالحقائق الخارجية.. وهل العرب وضعت الألفاظ لما تصورته بعقولها أو ما رأته بأبصارها؟ ويقول عن وضع الألفاظ للمفاهيم وما تصوره الذهن: «يبدوا أن هذا الرأي كان الغالب فيما يتعلق بالتراث الذي كتب عن الوضع في علم الأصول».

– ثم تحدث عن شيوع الاستعمال في تراث الأصوليين، [الاستعمال: فهو التكلم باللفظ بعد وضعه وسواء أطلق على معناه الأول أو نقل عنه لعلاقة أو غير علاقة. ابن جزي].

ومصطلح الاستعمال مرتبط بمصطلح آخر: هو الحمل، سيأتي بحثه في الفصل التالي. [الاستعمال من صفة المتكلم، والحمل من صفة السامع، والوضع متقدم عليها. ابن جزي].

وختم هذه الجزئية بالإشارة لأهمية هذا الكلام عند الأصوليين في عملية التخاطب بأنها نتاج «ثلاثة عناصر مختلفة في الأقل: وهي الوضع، والاستعمال، والحمل. وكل عنصر له فاعل له، ويحدث في وقت مختلف، ففاعل العنصر المتوسط (المستعمل) الذي يهمنا هنا يؤدي الوظيفة الأكثر أهمية في العملية التخاطبية؛ لأنه الشخص الذي يعد مراده هو المحور الذي تدور حوله عملية التخاطب».

ونتيجة للتعريفات التي ذكرها للأصوليين، تناول مصطلحات مركزية متعلقة بها في فهم الخطاب، مثل:

• القصد أو الإرادة، وتطرق للخلاف العقدي حوله وربط ذلك بخلق القرآن بناء على عدة إرادات تتضمنها صيغة “افعل”:

 – إرادة النطق. (لاستبعاد الأمر من النائم). 

– إرادة الدلالة. (لاستبعاد التهديد وغيره). 

– إرادة الطاعة. 

وقد شرح موقف المتنازعين بصورة جيدة.. وأشار للفرق بين «المعنى» و«المراد»، فالمعنى هو المحتوى الحرفي للكلام، والمراد هو الرسالة التي يقصد المتكلم إبلاغها للسامع، وبناء على هذا التفريق، يكون المعنى محكوما بالوضع، والمراد بالاستعمال. 

• ثم بسط القول في القرينة وأنواعها، وهي «ما نصب للدلالة على المراد»، وأشار إلى قربها من مصطلح آخر عند الأصوليين: هو السياق، وإن كانت القرينة أوسع؛ لأنها تشمل العناصر اللفظية وغير اللفظية، كما يتضح في أنواعها: 

– القرينة اللفظية/ المقالية. 

– القرينة العقلية. 

– القرينة الحالية. 

وختم الفصل بتقسيم آخر للقرينة عند الأصوليين والبلاغيين: الصارفة، الهادية.

التخاطب الإسلامي قراءة وعرض موجز للكتاب علم التخاطب الإسلامي: قراءة وعرض موجز للكتاب

الفصل الثالث: عن الحمل: (ص73).

الحمل: فهم السامع لمراد المتكلم، وحمل خطابه على الوجه الصحيح (بحسب ظن المخاطَب واعتقاده)، كما يُعبر علماء الأصول: [اعتقاد السامع لمراد المتكلم من لفظه سواء أصاب مراده أو أخطأه. ابن جزي].

وافتتحه بالإشارة لعناية علماء الأصول به؛ بسبب ارتباطه بفهم الأحكام ونصوص الوحيين، وما يتبع ذلك من إدراك كلام العلماء ومصطلحاتهم.

ثم ذكر علاقته بقصد الاستعمال، فهو سابق له، ولا بد أن يكون معلوما لدى الطرفين. وعدَّد شروطا؛ ليستحق الكلام حمله على وجه ما:

– قصد النطق. 

– مخاطبة السامع. 

– عقل السامع وقدرته على الفهم. 

والأمر العام الذي ينبغي اعتباره كما ذكر القرافي: الأصل أن اللفظ يحقق مقتضاه، وأن يفيد معناه.

ثم تناول بعض المصطلحات المتصلة بالحمل، مثل: الفقه، والفهم، والتفريق بين المعنى والقصد، وأشار للفهم اللفظي/ الظاهري، وربط الفقه بالعقل والسمع، ومِن ثم المقاصد الشرعية.

وعقد عنوانا فرعيًّا حول الدلالة باللفظ ودلالة اللفظ، وعرض فيه رؤية القرافي وشرحها شرحًا مفصلًا من عدة اعتبارات: (ص80) 

– الفاعل، 

– الوجود، 

– السببية،

 – أنواع الدلالة!

وفي أثناء ذلك طرح تساؤلًا مفاده: متى يُعد التَّخاطب ناجحًا؟

وللجواب على ذلك استقرأ عدة احتمالات للخطاب، ونص على أن «نجاح التخاطب يتوقف على التوافق بين المعنى المقصود، والمعنى المحمول، وليس بين المعنى الوضعي، وأي من المعنيين الآخرين!» وأشار إلى هذا الاستنتاج يُهمّش المعنى الوضعي، وهو أمر محل نظر ولا سيما عند الأصوليين، فاللفظ هو وسيلة بلوغ المراد، وأي مجاز لا بد له من علاقة باللفظ.

وأعقبه بعنوان آخر حول السياق من زاوية المخاطَب:

ذكر فيه النظرة الشمولية لعلماء الأصول لنص الوحيين، فهما كـ”اللفظة الواحدة” ما يشير لضرورة الترابط بين القرآن والسنة، فلا يستقل بفهم أحدهما بمعزل عن الآخر.

وتحدث عن أهمية القرينة وأقسامها وعلاقتها بوضع اللفظ والاستعمال، فـ”الألفاظ اللغوية دوال وضعية، في حين أن السمات السياقية دوال آنية” استعمالية. ولا يمكن للقرينة أن تؤدي وظيفة مستقلة عن غيرها بخلاف الألفاظ.

ثم تناول بالتفصيل عناصر مهمة تدخل في القرينة المعنوية غير اللفظية؛ لتكشف عن المراد، وهي:

– عادة المتكلم. (طريقته المعتادة في ألفاظه للتعبير)، ويدخل في العادة: الوضع العرفي. 

– العهد. (الموضوع المتبادل بين المتخاطبين). 

– الأعراف. (الثقافة المجتمعية وطريقة استعمال اللغة). 

– البساط. (السبب الدافع للكلام).

وأعقب ذلك بعنوان: أنموذج الحمل عند الجمهور:

عرض فيه صياغة علماء أصول الفقه لطائفة من القواعد والمبادئ في كيفية الوصول لحمل سليم للنصوص الدينية وغيرها مما ارتبط بها.

وناقش فكرة مدى الاعتماد فحسب على الوضع اللغوي في فهم النصوص دون استعمال العناصر الأخرى في عملية التخاطب، فمن الخطأ الادعاء بأن الألفاظ تدل بدون قرائن عقلية!!

والخطاب الوضعي المثالي ينبغي أن يكون:

• قطعيًّا. 

• مقصودًا. 

• عامًّا. 

• مستقلًا. 

• خاليًا من التأكيد. 

• مرتبًا.

ولكن هذا الخطاب لا يتحقق دومًا مما يعني أنَّ الاعتماد على المعنى اللغوي فحسب في فهم المعنى لا يكفي. 

ولكي يبلغ المرء غايته في هذا الشأن بحاحة لنوعين من القرينة: 

– قرينة صارفة للإشارة إلى أن المعنى الحقيقي الوضعي غير مقصود. 

– قرينة هادية لبيان مراد المتكلم.

ثم فتح سؤالا مزدوجًا، وفصّل في الجواب: كيف يبين المتكلم مراده للسَّامع؟ كيف يكتشف السَّامع مراد المتكلم؟

يقول: يمكن الحصول على الإجابة عن هذين السؤالين بالمبادئ الخمسة التالية:

1. مبدأ بيان المتكلم. (إظهار المتكلم المراد للسامع). والسامع يحمل خطابه على ظاهره، وإلا كان قاصدا لما لا يدل عليه اللفظ. 

2. مبدأ صدق المتكلم. (في غير الوحي، فالكذب من المتكلم يحجب الفهم الظاهر للكلام)، واللغة هي الصدق دون الكذب كما يقرر القرافي. 

3. مبدأ الإعمال. (بلوغ الغاية في البحث عن مفاتيح فهم المراد، ويتضح المبدأ بقاعدتين: “إعمال الكلام أولى من إهماله”. “إنَّ حمل الكلام على فائدة أولى من إلغائه”، وحمل الكلام على التأسيس أولى من التأكيد). 

4. مبدأ التبادر. (حمل الخطاب على الأرجح في الفهم، بشرط الاعتقاد بأنه المقصود للمتكلم، ونوع الحمل المستوفي للتبادر: المطابِق للأصول، وللوضع، والأكثر توقعا، والأقرب للمعنى)، وبسط المؤلف الحديث في هذا المبدأ أكثر من غيره، مع الشرح والأمثلة وذكر صوارف الحمل على الظاهر كالعقل والعادة، والعالم الخارجي، وقرينة أخرى.. وختمه بنظرية المناسبة في علم الأصول (ص111). 

5. مبدأ الاستصحاب. (الأصل بقاء ما كان على ما كان) وقد صاغ علماء الأصول عدة قواعد للدلالة على هذا المبدأ كالأصل عدم النقل والتغيير، والإضمار خلاف الأصل، والاشتراك خلاف الأصل…

التخاطب الإسلامي قراءة وعرض موجز للكتاب3 علم التخاطب الإسلامي: قراءة وعرض موجز للكتاب

الفصل الرابع خصه بعرض جيد: لنظرية الحمل السياقي عند ابن تيمية: (ص127).

وهو من أميز الفصول، جعله متممًا للسَّابق، وقد افتتحه بكلمة موجزة في حق ابن تيمية رحمه الله ومكانته العلمية، وبيان مشروعه النقدي للآراء والمذاهب، وعُمق فهمه ونقده للفلسفة والمنطق، «لقد كان ابن تيمية ناقدا لمفهوم الكليات على وجه الخصوص؛ لأنها لا تعدو أن تكون تصورات الذهن البشري للحقائق الخارجية، التي قد تكون مطابقة أو غير مطابقة لتلك الحقائق، فالحقائق دائما خاصة وجزئية»، ثم تحدث عن قيمة الرؤية التي قدّمها رحمه الله في هذه المسألة، والحجج القوية التي صاغها. وقد بذل المؤلف (وفقه الله) جهدًا كبيرًا (ومشكورًا) في تقريبها ونظمها؛ حتى تبدو متماسكة وقوية.

وقام بشرحها في عدة محاور على النحو الآتي: 

1) الدعوة إلى المنهج السياقي: لخص الفكرة الأساسية بالنقل التالي: “لا يوجد في الخارج شيء موجود خارج عن كل قيد”، فليس ثمة لفظ مطلق أو معنى مطلق سوى تصوراتنا الذهنية للألفاظ والمعاني الحقيقية، التي ليست إلا تصورات مجردة ليس لها وجود حقيقي في العالم الخارجي. وقد أخفقت المناهج الصورية بسبب نزعتها إلى التجريد بدلا من تعاملها مع الواقع، فلا يمكن بلوغ بحث معقول إلا باللجوء إلى منهج عملي يأخذ في حسبانه الظاهرة الجزئية. 

2) الخلفية الفلسفية: المعنى يعتمد على السياق. هذا منطـلَق الإمام في بحث المجاز، والباحث ربط نظرية الشيخ رحمه الله في المعنى بعدد من أصول الشيخ الفلسفية، مع إشارته لدور ثنائية الكليات والجزئيات في مناقشته المعرفية، وتَجلي الأولى في الجمل التي تعتمد على الوضع، بخلاف الجزئيات التي تظهر في القولات المحكومة بالاستعمال، وهذا الموطن أحد المواضع التي يفيد في بيانها أكثر تخصص اللسانيات الحديثة.

من أسس نظرية الإمام:

– الوجود: 

فالقول فيه موافق لنظريته في السياق، فالكلي الطبيعي عنده لا يوجد إلا في الذهن، وليس له وجود في العالم الطبيعي. وكذلك الصفات لا تستقل في وجودها عن الذوات، ووجودها لا يسبق وجود الذوات في العالم الخارجي. وهو يرفض بشدة تفريق الفارابي وابن سينا بين الماهية والوجود، وكونهما موجودين وجودا حقيقيا في الخارج. ويقرر أن سوء فهم الفلاسفة يعود للخلط بين العوالم: الذهنية، والحقيقية/الخارجية. 

وفي آخر هذا الأساس أشار المؤلف لعدد من البواعث المحتملة لهذا الرأي من الإمام رحمه الله كتعظيم النصوص والتفريق بين الحقيقة والمجاز. 

– نسبية الإدراك: 

بمعنى أنه ليس لاكتساب المعرفة معيار موضوعي؛ إذ إن الحكم على قضية ما بأنها برهانية، أو بديهية متوقف على القدرة الذهنية للشخص، وليس لطبيعة القضية نفسها. 

– نظرية الحد السياقية: 

وبسط الكلام في هذا الأصل أكثر من غيره؛ لأهمية الحد. وافتتحه بالتفريق بين التصور والدلالة، مع التنبيه إلى أن كليهما عملية وضعية وسياقية؛ إذ إن الاسم المجرد (كالحد) لا يوجب تصور المسمى لمن لم يتصوره بدون ذلك، وإنما الاسم يفيد الدلالة عليه والإشارة إليه. فالمسمى والمعرف يمكن تصورهما بلا حد، بل إن ذلك شرط لتصور الأسماء والحدود؛ لتدل على معانيها. ومن هنا لم توضع اللغة للدلالة على المفرد؛ لأن الدلالة على معنى اللفظ المفرد يتوقف على معرفة أن اللفظ وضع له، ولا يمكن معرفة أن اللفظ وضع لمعنى ما إلا بتصور اللفظ والمعنى معا.

وبحسب رؤية الشيخ فإن غاية الحد الصحيح: هو الكشف عن مراد المتكلم، وذلك لا يمكن إلا بالحد الاسمي، وهو ما تضمن واحدًا من الآتي:

أ‌) الاسم المرادف. (صفة واحدة وذات واحدة) 

ب‌) الاسم المكافئ، (وهو المساوي غير المرادف لاسم آخر). 

ت‌) المثال كالإشارة إلى عين الشيء لمن سأل عنه. 

ويمكن أن تفهم نظرة الإمام للدعوة إلى التعامل مع الحد على أنه وصف معتمد على السياق. والباحث يشير إلى أن رؤية الشيخ يمكن تفهمها إذا كان يريد الناحية التخاطبية عمومًا، أما إذا تفحصنا الحدود من الناحية العلمية، فإن رأيه سيكون موضع شك. 

ولا ضير من دخول السياق (مجال علمي) في التعريفات العلمية، وكذلك فإن شرط التعريف المفيد أن يكون السامع على علم بمكونات المعرَّف المركب.

وفحوى فكرة ابن تيمية: أن الغاية من استخدام الأسماء، والحدود؛ إنما هو التمييز بين مسمى وآخر، وبين معرّف وآخر.

3) نظرة ابن تيمية السياقية إلى اللغة والإفادة: 

لقد ألحّ ابن تيمية على أنَّ اللفظ لا يمكن أن يستخدم على نحو مطلق؛ لأنه غير مفيد قبل “العقد والتركيب” مع ألفاظٍ أخرى. فاللغة وسيلة للمتكلمين لإبداء مراداتهم التخاطبية التي لا يمكن التعبير عنها بكلمات معزولة عن السياق. 

وثمة علاقة مطردة بين التقييد والإفادة، فكلما زاد تقييد اللفظ زادت إفادته، والعكس بالعكس. فاللفظ المطلق المجرد (عن السياق) ليس له معنى على الإطلاق! 

4) نظرة ابن تيمية السياقية إلى التفريق بين الوضع والاستعمال: 

في هذا التفريق نقل عن ابن القيم رفضه أن اللفظ يمكن تجريده من الاستعمال إلا في الذهن، فهو يرُدُّ هذا التفريق الذي تبناه جمهور الأصوليين، وهو المتسق مع رؤية شيخه ابن تيمية رحم الله الجميع. 

5) نظرة ابن تيمية السياقية إلى التفريق بين المعنى والمراد: 

افتتحه بتحديد المعنى: الصورة الذهنية (المقصودة) التي يحيل عليها اللفظ، ثم أشار لتعدد التسميات لهذه الصورة، فمرة مفهوما وأخرى دلالة وهكذا بحسب الحيثيات.

وذكر المراد وحدده بالتالي: المعنى في حال الاستعمال. وأعقبه بأن رفض التفريق بينهما قائم على منع الوضع الأول، وهذا يقتضي التحييد للمعنى الوضعي لصالح المعنى السياقي.

التخاطب الإسلامي قراءة وعرض موجز للكتاب2 علم التخاطب الإسلامي: قراءة وعرض موجز للكتاب

6) نظرة ابن تيمية السياقية إلى الدلالة: 

المقصود بالدلالة عند ابن تيمية: إما “فعل الدال” أي “دلالته للسامع بلفظه”، أو “فهم السامع ذلك المعنى من اللفظ”. 

والشيخ يُصرُّ (كما يرى الباحث) على فكرة أن الدلالة قصدية وإرادية، ويفرق بين نوعين من الدلالة: – الدلالة الوجودية. (تشمل كل عملية يستخدم فيها المتكلم عنصرا دلاليا فعليا، سواء أكان علامة أم كلمة..) – الدلالة العدمية. (خلاف ما سبق) فالأولى تشمل كل عملية يستخدم فيها المتكلم عنصرا دلاليا فعليا، سواء أكان علامة أو كلمة.. والثانية محاولة من الشيخ للحفاظ على اطراد دعواه في أن اللفظ لا يمكن استخدامه دون قيود سياقية، فالدلالات العدمية عنده تُعدّ قيودا قصدية يضعها المتكلم.. فنفس التكلم باللفظ مجردا قيد!! 

7) مراجعة ابن تيمية النقدية لثنائية الحقيقة والمجاز: 

صدّره بأن مجمل علماء اللغة يسلمون بالتفريق التقليدي بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي. ثم ذكر أن من الأسئلة الجديدة في موضوع المجاز، قولهم: هل هو قضية معنى (موضوع لعلم الدلالة) أم قضية استعمال (موضوع لعلم التخاطب)؟ وأكد المؤلف أن أطروحة ابن تيمية التي وصفها بـ(الجذرية) تمتاز عن المقاربات الحديثة التي تقترب من المعالجة التقليدية السائدة. وما يميز الشيخ تشديده على تحييد التفريق بين الحقيقة والمجاز ضمن أصول نظرية قائمة على السياق.

وقد بسط الباحث الكلام في هذا الموضوع أكثر من غيره وجعله في عدة محاور جزئية: (ص148-167).

• رأي أنصار ثنائية الحقيقة والمجاز، وحججهم لتأييد هذا الفرق الذي يعتمد على فكرة: الوضع الأول وما يسبق لفهم السامع عند التخاطب. 

• حجج لتأييد التفريق بين الحقيقة والمجاز، مثل: توقف المجاز على القرينة بخلاف الحقيقة، وتبادر الذهن لمعنى محدد للفظ المتعدد المعنى. 

• حجج ضد التفريق بينهما، مثل: أن ذلك مبني على دعوى تفترض وجود وضع سابق على الاستعمال، وعدم وجود لفظ مفيد يدل مجردا من كل القرائن، وسَبْق معنى على آخر للذهن لا يُسوِّغ التفريق بين الحقيقة والمجاز. 

• تفسير ابن تيمية للمجاز، فهو يرى أنه لمّا كانت اللغة تستخدم للتعبير عن محتويات العالم الخارجي، فلا بد من وجود صلة بين بنية الواقع واستعمال اللغة بحيث تعكس اللغة ما هو موجود في الواقع. ونظرا إلى عدم وجود شيء مجرد في العالم الخارجي، بل كل الموجودات تُتصور مقيّدة بوجهٍ ما، فلا وجود إذن للألفاظ المطلقة للدلالة عليه. 

وفي الجملة حول هذه العناصر تطرق المؤلف أيضا لعدد من الفرعيات والتحليلات المهمة ذات الصلة بالمسألة الأم. وقد عرض الحجج والنقاشات والردود للمخالفين والمعارضين لكل مسألة وقضية، ولخصها بجهد كبير وطريقة مميزة. 

8) أنموذج الحمل عند ابن تيمية: 

جعله أقل تعقيدا من غيره كأنموذج الجمهور الذي ختم به الفصل السابق. وعرض أنموذج الشيخ أثناء مقارنته بالجمهور في التعامل مع المثال التالي: رأيت أسدا يخطب على المنبر، كيف يفهمه كل منهما؟

أنموذج الشيخ في الفهم:

– مبدأ البيان. 

– مبدأ الافتراض لفهم عادة المتكلم. 

– مبدأ التبادر. 

وأعقبه بذكر الفرق الأهم بين النموذجين: (ص168). 

فالجمهور يفترضون أن السامع يميل إلى صوغ مَحْمل واحد على أنه الأرجح لأن يكون مراد المتكلم، والمحامل الأخرى ممكنة. 

وأما ابن تيمية فيفترض أن السامع يذهب مباشرة إلى المحمل المناسب للسياق. 

ثم فرَّع مسألة مهمة كنتيجة لاختلاف النظر بين النموذجين: وهي قضية التأويل، وحدوده، وذكر أنها من أكثر الموضوعات الجدلية في علم الأصول والفكر الإسلامي عموما. قام بعرض تعريفات التأويل، وتصورات العلماء في التعامل معه، سواء الجمهور، أو الحنفية، أو الظاهرية، أو ابن تيمية وشروط كل منهما لقبوله أو رده.

التخاطب الإسلامي قراءة وعرض موجز للكتاب5 علم التخاطب الإسلامي: قراءة وعرض موجز للكتاب

الفصل الأخير: طُرُق الدلالة، ثم المفاهيم وحجيتها وأنواعها: (ص185).

ابتدأ بتقرير الغموض المتأصل في مصطلح الدلالة، بسبب استخدامه في أكثر من مجال، وذكر المعاني التي تُعزى للدلالة: وهي المعنى، المفهوم، الاستدلال، ونصّ على أن ما يعنيه منها هو الأول والثاني؛ لأنهما المرادان عند تناول ما يُعرف بطرق الدلالة.

والتعريف الشائع للدلالة: هو أنها “كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر”، ومن قضايا هذا الفصل ما يلي:

‌أ) التصنيف العلامي للدلالة: 

وهذا التصنيف تبناه المناطقة والفلاسفة العرب، وساهم علماء الأصول في تطويره، وهو يغلب على الدلالة التجريدية. 

وقد ميز علماء الإسلام بين نوعين من الدلالة: 

– الدلالة اللفظية: طبيعية، عقلية، وضعية: مطابقة، تضمن، التزام. 

– الدلالة غير اللفظية: وضعية، عقلية، ثم طبيعية (عند البعض). 

وتُعد الدلالة اللفظية الوضعية النوع الأهم عند اللغويين والأصوليين. 

وقد ذكر الباحث تصنيفا آخر للدلالة عند الآمدي وابن الحاجب: لفظية: مطابقة، تضمن. وغير لفظية: التزام، ولكن اشتهر التقسيم السابق عند جمهور العلماء. 

ثم شرع في التوضيح والتمثيل لهذه الأنواع، مع التفريق فيما بينها، بشكل جيد، وختم بنقد التصنيف الثلاثي للدلالة اللفظية الوضعية، وتناول فيه أطروحة الآمدي وابن الحاجب والرازي. ‌

ب) التصنيف النصي للدلالة: 

هذا التصنيف خاص بعلماء الأصول، وهو سياقي للدلالة (براغماتي) كما يُعبر الباحث، فهو مبني على المعايير والاستنتاجات المستمدة مما يسميه الأصوليون المقامات الخطابية كما يتجلى عند الحنفية خاصة.

وهذا النوع من الدلالة شاع تصنيفه في كتب أصول الفقه على النحو التالي (الحنفية والجمهور):

1- طريقة الأحناف في تقسيم دلالة النص: 

[التقسيم المذكور للحنفية باعتبار محدد، ذكروه في كتبهم، وهو ضمن منظومة تقسيمات أخرى وضعوها للتعامل مع الألفاظ عموما: 

وجوه النظم كالخاص والعام.. 

وجوه البيان كالظاهر والخفي، والنص والمشكل.. 

وجوه استعمال النظم كالحقيقة والصريح.. 

وجوه الوقوف على المراد والمعاني، وهي التي ذكرها المؤلف فيما يلي] 

عبارة النص: المعنى “المسوق له الكلام”، وهو متبادر لا يحتاج للتأمل (بخلاف الإشارة)، والمسوق مقارب للمراد والمقصود، وفكرة السوق تشير للتقيد بالسياق. 

إشارة النص: ما ثبت بنظمه لغة، لكنه غير مقصود ولا سيق له النص. 

دلالة النص: فهم غير المنطوق من المنطوق بسياق الكلام ومقصوده. فهي ضرب خاص من المعنى السياقي الذي يستمد فيه المعنى المفهوم من المعنى المنطوق؛ استنادا على القرينة، وقاعدة: “من باب أولى”، وفحوى الخطاب. 

اقتضاء النص: ما أضمر في الكلام ضرورة صدق المتكلم ونحوه. فهو زيادة على المنصوص عليه يشترط تقديمه؛ ليصير المنظوم مفيدا وموجبا للحكم.

2- طريقة الشافعية في تقسيم دلالة النص: 

تصنيف الجويني:

 – دلالة المنطوق: الظاهر، النص. 

– دلالة المفهوم: الموافقة، المخالفة. 

 تصنيف: الغزالي: 

– المنطوق: 

– المفهوم: الاقتضاء، الإشارة، الإيماء، المفهوم: الموافقة، المخالفة. 

– المعقول: القياس 

 تصنيف الآمدي: 

– دلالة المنظوم: المطابقة، التضمن. 

– دلالة غير المنظوم: المقصود: الاقتضاء، التنبيه، المفهوم: الموافقة، المخالفة. غير مقصود: الإشارة. 

 تصنيف ابن الحاجب: 

– دلالة المنطوق: الصريح: المطابقة، التضمن. غير الصريح: مقصود: الاقتضاء، التنبيه والايماء، غير مقصود: الإشارة. 

– دلالة المفهوم: الموافقة، المخالفة.

ثم ختم الكتاب: بدلالة المفهوم:

ذكر أنواعها: موافقة، مخالفة. 

وخص مفهوم المخالفة بالحديث، فتناول أركانه، وحجيته، وأسسه، وشروطه، وأنواعه، وهي: 

– مفهوم اللقب. 

– مفهوم الصفة. 

– مفهوم الشرط. 

– مفهوم الغاية. 

– مفهوم العدد. 

– مفهوم الاستثناء. 

– مفهوم الحصر.

وأخير الخاتمة: (ص293). وقد تناول فيها المؤلف عدة تنبيهات عامة للباحثين حول علم التخاطب وما يقاربه من المعارف، ثم قام بتلخيص مجمل لنماذج الفهم مع أبرز القضايا في الفصول.. والكتاب جدير بالقراءة والمناقشة بين الباحثين ولا سيما في مجاليْ اللغة وأصول الفقه.. والحمد لله من قبل ومن بعد.

محمد بن حسين الأنصاري

محمد بن حسين الأنصاري - كاتب وباحث متخصص في الدراسات الشرعية والفكرية. - حاصل على شهادة الماجستير في أصول الدين والدراسات الشرعية من جامعة أم القرى. - باحث في الدكتوراه تخصص أصول الفقه. - له مؤلفات منشورة منها: "الدراسات البينية القرآنية" بالشراكة، "تكوين الذهنية العلمية"، "سؤال التداخل المعرفي". - ⁠وله عدة أبحاث ومشاركات علمية وإعلامية في مختلف الوسائل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى