فكر

في وجه التزييف العلماني (الجزء الثامن)

رفض الخصوصيات الحضارية في الإصلاحات الدينية الجديدة

الاتهام العاشر:

1- لا شك أن حقوق الإنسان من القيم العظيمة التي تحتاجها البشرية؛ لكن التعاطي معها لا يجب أن يكون بطريقة تسليم العبيد لقرارات السادة الأقوياء الذين يفصلون القوانين وفقا لمصالحهم الاستعمارية وقتما يريدون.. ولنا أولا هذه الملاحظات على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:

2- تم إعداد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في زمن هيمنة الاستعماريات الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية، وتفردت مجموعة حضارية ثقافية دينية واحدة هي المجموعة المسيحية (الوحيد الذي ينتمي للشرق العربي الإسلامي كان مسيحيا مارونيا) بالإشراف والإعداد دون بقية المجموعات الحضارية والثقافية والدينية الأخرى، والتي كانت معظمها – للمفارقة- ترزح تحت هيمنة واحتلال واستغلال وظلم الدول الاستعمارية التي أعدت الإعلان ذاته!

3- رغم إقرار الدول الكبرى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ إلا أنها لم تلتزم به إلا في حدود خدمة مصالحها المشروعة وغير المشروعة على حد سواء، وما لا يتعارض معها؛ وإلا فإن مصير بنوده كان هناك تحت أحذية جنودها، أو معطلا بحق الفيتو!

4- استخدمت – وماتزال- القوى الاستعمارية الكبرى الإعلان العالمي كورقة مساومة وضغط لنشر نفوذها الثقافي ومفاهيمها الاجتماعية/ الدينية في بلدان العالم المخالف لها حضاريا ودينيا؛ للتمكين لنفوذها السياسي والاقتصادي، وصناعة الأنظمة العميلة المرتبطة بها، وتقوية قبضتها على الشعوب المغلوبة على أمرها مقابل السماح بتمرير أجندة استعمارية ظالمة.

5- وبناء على ما سبق؛ فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليس كتابا مقدسا حتى يصير الإيمان به، والالتزام به أمرا واجبا دون نقاش أو مراجعة؛ وإلا فإن جيوش الدول الاستعمارية وعملاءهم (ممن امتهنوا قمع الحريات وسلب الحقوق) على استعداد لتلقين الرافضين دروسا في ضرورة احترام الحريات وحقوق الإنسان!

والعدل والإنصاف يقتضيان أن تكون هناك جولة جديدة لمراجعة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (بل وميثاق هيئة الأمم المتحدة)، وعلى أن تشارك فيه كل المجموعات الحضارية والثقافية والدينية على قدم المساواة في مراجعته، ووضع ضمانات حقيقية لإلزام الجميع به، وعلى أن يبدأ تطبيقه وتجسيده في صورته الجديدة أولا على الدول الكبرى صاحبة حق الفيتو في مجلس الأمن حتى تكون قدوة للدول الأخرى في الالتزام به، ولا نظن أن مثل هذا المقترح يصعب حدوثه للأسباب التالية:

أ- إن المتحمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان من النوعية التي ترفض الإيمان بقداسة أي شيء في الحياة، ولا شك أن هذا المبدأ سوف يساعد على تقبل الدول الكبرى لفكرة المراجعة؛ إذ لا قداسة للإعلان كما هو الحال مع الكتب الدينية المقدسة، والتقاليد الاجتماعية، والقيم الأخلاقية.. وأيضا قرارات الأمم المتحدة ومجلس الامن لدى الدول العظمى!

ب- لن تكون المراجعة الجماعية التي تشترك فيها كل المجموعات الدينية والثقافية والحضارية لتعديل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. لن تكون بدعة ولا مساسا بقدسيته لسبب معلوم بالضرورة؛ وهو أن الدول الكبرى التي أشرفت على إعداد الإعلان العالمي لحقوق للإنسان لم تلتزم به كما سلف إلا وفق مصالحها وقوانينها المحلية، وفي الزمن الذي ظهر فيه كان معظم العالم يرزح تحت سيطرة جيوش تلك الدول، ولم تكن بدورها تمانع أن تشن حروبا ضد الشعوب المطالبة بحريتها وحقوقها الوطنية والإنسانية. وحتى الآن ما تزال هذه الدول الكبرى تخوض حروبها الخاصة للمحافظة على مصالحها، وتنتهك فيها كل بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقانون الدولي، وأي اتفاقية دولية تتعارض مع مصالحها ولو كانت من أوائل الموقعين عليها. وعلى المستوى السياسي تدعم الدول الكبرى دون استثناء أنظمة ديكتاتورية تنتهك كل حقوق الإنسان وتتغاضى عن ممارساتها القمعية وفق معايير أنانية وانتهازية ومصلحية.

ج- يلاحظ أن الدول الأوربية والولايات المتحدة وغيرها قد تجاوزت في بعض قوانينها المحلية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في بعض المسائل وأخطرها: (الأسرة المكونة من رجل وامرأة )، والتي وصفها الإعلان العالمي بأنها ( الخلية الطبيعية الأساسية في المجتمع ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة)، ومع ذلك فقد أقرت دول كثيرة شرعية تأسيس أسر بالمخالفة للمادة المعنية في الإعلان العالمي، كمثل إباحة زواج المثليين من الرجال والنساء على حد سواء، وأقرت قانونية تأسيس أسر أحادية (امرأة بدون رجل)، والحياة المشتركة بين رجل وامرأة دون زواج.. وفي المقابل ما يزال تعدد الزوجات ممنوعا وجريمة كبرى، وتتصدر مطالب الإصلاح المشبوهة!

0 في وجه التزييف العلماني (الجزء الثامن)

وبصفة عامة يتضمن الإعلان العالم لحقوق الإنسان نواقص كثيرة..

6- طالبت التهمة بإعادة النظر في الحدود الشرعية الإسلامية، ووصفتها بأنها (العقوبات الجسدية الفقهية)، ومثل هذا الوصف عمل غير شريف، ولا يدل على احترام الأديان؛ فأولا لا يوجد شيء اسمه عقوبات (فقهية) بل هي تشريعات إسلامية موجودة في القرآن، وكان يفترض ان يتذكر أصحاب هذا المطلب أنه سبق لهم أن طالبوا المسلمين باحترام الأديان الأخرى والإقرار بصحتها كطرق للوصول إلى الله؛ ولو كانت مليئة بالخرافات والهرطقات والأكاذيب! فكيف يأمرون المسلمين بالتسامح واحترام أديان الآخرين ثم هم يسيئون إلى دينهم وتشريعاته، ويطلبون منهم إعادة النظر فيها وفقا لتطورات القانون الدولي وحقوق الإنسان (الاثنان صارا من أكبر مهازل البشرية) وهي تشريعات إلهية المصدر؛ تمهيدا لإلغائها تعديلها وفقا لرغبات أهل أديان وحضارات أخرى؟

وطبعا المقصود هنا هو بعض الحدود في القانون الإسلامي مثل إعدام القاتل، وجلد شارب الخمر، وقطع يد السارق، وجلد أو قتل الزناة (بعد ضمان استيفاء كل الشروط والمحاذير).. وهي عقوبات ثابتة في المرجعيات الثابتة للمسلمين وخاصة القرآن الكتاب المقدس، كما يوجد في دساتير وقوانين الدول المسيحية والكيان الصهيوني قوانين ومواد مأخوذة من التعاليم المسيحية واليهودية!

ومسألة رفض أو النفور من طريقة العقوبات الإسلامية مسألة متوقعة؛ كما هو الأمر تجاه العقوبات غير الإسلامية البديلة؛ مثل السجن الطويل بكل ما يمثله من تدمير لإنسانية الإنسان، وتحول السجون إلى محاضن للفساد والجريمة، وفشلها في المقابل في الحد من الجرائم رغم كل الإمكانيات المادية والتقنيات الحديثة الخرافية التي تبذل لمواجهة الجريمة.

ولذا فإما وترك الأمر خاضعا لخصوصيات كل بلد ودين وثقافة.. أو على الأقل فليكن المعيار هو المنفعة المتحصلة من هذه العقوبات فما نفع البشرية عمل به.. فإذا كانت السجون تفلح في القضاء على الجريمة أو التخفيف منها، والمحافظة على أمن الشعوب فمن حق من يقتنع بذلك أن يجعله قانونا له.. ومن حق الآخرين اعتماد الوسائل المجدية في قناعتهم في مكافحة الجريمة وخاصة لو كانت جزءا من دينهم، ويؤمنون أنها طريق صحيحة توصلهم إلى الله!

نقول ذلك مع إيماننا أن مكافحة الجريمة بحق تقتضي أمورا وتشريعات وأوضاعا اجتماعية وأخلاقية، وعدلا ومساواة، وسدا لمنافذ الشرور والإجرام فلا يقتصر الأمر على قوانين العقوبات فقط كما هو معهود.. ومن ثم فلا تكون العقوبات الجسدية إلا حلا نهائيا ودواء بالكي.

وفي مقابل فشل ترتيبات المدنية الغربية في مواجهة الجريمة والتقليل منها؛ رغم الإمكانيات المادية والفنية الخرافية المبذولة.. فالثابت من التاريخ الإسلامي القديم والقريب أن تطبيق الحدود الإسلامية، وعقوباتها المعروفة كانت تنجح إلى حد كبير في توفير قدر كبير من الأمن للناس؛ حتى في مجتمعات متخلفة وجاهلة، وفيها اختلالات في تجسيد العدل والمساواة!

الاتهام الحادي عشر:

– هناك احتكار لتفسير القرآن من طرف واحد ممن يعرفون بالشيوخ الذين تحولت أقوالهم وتفسيراتهم إلى مصادر لا تناقش!

– طغيان المرويات على التراث الديني زحزح مكانة القرآن الكريم بل وحجم الكثير من رؤاه وصياغاته للتشريع!

– إعلان الحرب على الفلسفة والفكر والعقل، ونشأة وترعرع الاستبداد والاحتكار الديني!].

[ هذا ما قاله أستاذ جامعي عربي في مقال نشر في مدونة الجزيرة في 25/5/2017]

وهذه مناقشة لمزاعم البروفسور الجامعي:

1- وأولا؛ فإن حكاية (الإصلاح المسيحي العميق) يمكن تبين فسادها لو تذكرنا أن الأديان/ المذاهب المسيحية الثلاثة ما تزال تؤمن بأصول المسيحية المحرفة في تأليه المسيح عليه السلام، وأنه إله بطبيعتين، أو أنه ثالث ثلاثة من الآلهة، أو وصفه بأنه ابن الله.. وأن الاختلاف بينها الناتج عن الإصلاح (الجريء) ليس في قضايا رئيسية، وتحديدا يتركز في مسائل مثل رفض فكرة صكوك الغفران، وعصمة البابا (الأرثوذكسية سبقت إصلاح مارتن لوثر في ذلك.. كما أن الإسلام يؤكد دائما على بشرية النبي وأنه معصوم فقط في تبليغ الوحي وما يتعلق بالدين والتشريع، ومن باب أولى فإنه لا عصمة لأحد في الإسلام).. ومن الثابت في تاريخ أوروبا الحديث أن إصلاحات مارتن لوثر لم تمس الدين المسيحي ولكن مست نفوذ الكنيسة وهيمنتها على الشؤون الدينية العامة والخاصة! وفي كل الأحوال فما تزال الأغلبية المسيحية (الكاثوليكية والأرثوذكسية) ترفض إصلاحات البروتستانتية، وتحكم على المذهب البروتستانتي بالكفر!

الديني في وجه التزييف العلماني (الجزء الثامن)

2 – وأما إعلان الحرب على الفلسفة والعقل والفكر فهو لازمة للأديان المسيحية الثلاثة، وقد كان قادة ثورة الإصلاح المسيحية (العميقة الجريئة) أعداء للعقل والفلسفة والفكر الإنساني كما أثبتنا سابقا ضمن أفكاره، وأسس إصلاح مارتن لوثر وأشباهه لطغيان سلطة الملوك المطلقة دينا ودنيا، وجعلوهم مهيمنين على الدين والدنيا معا، وأفتوا أن طاعة الدولة والحكام واجبة على كل مسيحي ولو كانوا ظلمة!

وربما لا يعلم الأستاذ الجامعي العربي أن مفكري الإسلام منذ 1400سنة خاضوا في مسائل لاهوتية غيبية في أخص خصائص الذات الإلهية، وصفات الخالق، وكلامه وحروفه، بما لا يمكن لقسيس، ولا كاهن مسيحي من ثوار الإصلاح الجريء أن يخطر بباله أن يفعل مثلها في المنام فضلا عن اليقظة!

ولو قرأ الأستاذ الجامعي التاريخ قليلا فسوف يعلم أنه لا ارتباط ضروريا بين معاداة الفلسفة والعلم وبين نشأة الاستبداد الديني، وفي تاريخ الإسلام كان أول ظهور للاستبداد والإرهاب الفكري والديني (الجماعي) مرتبط بفرقة المعتزلة – الموصوفة بأنها تيار العقل والفلسفة التي تقدم العقل على النص وتجعل الأول حاكما على الثاني، وأن رجالها هو فلاسفة الإسلام- في زمن الخلفاء العباسيين!

وفي تاريخ القرن العشرين سوف يكتشف دكتور الجامعة الغيور على الفلسفة والعلم أن أبرز الرجال المجرمين والمجانين في النظم النازية والفاشية، والشيوعية الديكتاتورية، والرأسمالية في القرن العشرين كانوا يعشقون الفلسفة والموسيقى إلى حد الجنون، وكانوا يسبون أنفسهم ونظرياتهم للعلم، ولم يمنعهم ذلك من محاربة حرية الفكر والتفكير حتى في النفوس والمنام، وإنزال أشد الويلات بالبشرية، وهي فجائع ومآس لم تحدث قبلهم ولا بعدهم!

3 –  لم تعرف المجتمعات الإسلامية (احتكارا في تفسير القرآن) على طائفة كما كان معمولا به في المسيحية لا في العصر القديم ولا في العصر الحديث، وتنوعت التفسيرات التراثية للقرآن ومدارسها  في التاريخ الإسلامي وفقا لتعدد المذاهب والاجتهادات الفردية، وحتى ظهرت تفسيرات تقلب الثوابت المعروفة  في الإسلام رأسا على عقب، وتتمرد على قواعد اللغة الضرورية لتفسير النص المقدس لتفسر الكتاب الكريم بأنواع من التفسيرات الشاذة والغريبة غرابة الشيطان نفسه ووصل الأمر ببعض الغلاة الشيعة إلى الادعاء بأن القرآن قد تم تحريفه وأنهم يملكون نسخة خاصة بهم أسموها بمصحف فاطمة! (1)

وفي كل الأحوال كان وما يزال تعلم القرآن وتدريسه وقراءته ظاهرة إسلامية أكثر شيوعا وأسهل من شرب الماء، وتنفس الهواء، ونشر التشكيكات والافتراءات, فلا يخلو مسجد ولا مدرسة ولا منزل ولا زوايا من وجود مصحف ومن حلقات جماعية لقراءة القرآن أو تعليمه أ تفسيره، ودون وجود أي قوانين ولوائح تمنع أو تحد من ذلك.

4 – من المعلوم في الإسلام بالضرورة أن لا قدسية لمفسر ولا عالم في ميزان الشريعة تجعل كلامه سيفا مصلتا على الرقاب، وتفرض الأخذ به كعلامة على الإيمان، وبدليل التعددية المذهبية والفكرية غير المحدودة التي لم يعرفها دين من الأديان ولا مجتمع من المجتمعات البشرية قبل ذلك، وحتى قيل إن ميزة العلوم والحضارة الإسلامية أنها حضارة (فيها قولان) بل وأقوال قد تبلغ كثيرا العشرات في المسألة الواحدة، وكان شعارهم الشهير: نحن رجال وهم رجال!

وقد تطاول في عصرنا هذا على تفسير القرآن وأحكامه حتى صبيان الصحافة والإعلام، ومفكرون ملاحدة وعلمانيون وفق أهوائهم وأمزجتهم، وتصدرت برامج قنوات التلفاز فنانات وراقصات للحديث في أمور الدين والإفتاء، وتلاعبوا بالحلال والحرام كما تشاء لهم شياطينهم! وعلى المستوى الرسمي تم إزاحة القرآن كمصدر للتشريع في معظم البلدان الإسلامية، ولم يعد لعالم ولا فقيه سلطة ولا رأي في تفسير القرآن إلا إذا كان موافقا لأهواء الحكام، وظلت مادة الإسلام دين الدولة في الدساتير مثل مفردة الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان في الدساتير لا تقدم ولا تؤخر ولا أحد يلتزم بها!

5 – بقي القول إن الاعتراض على طغيان المرويات على التراث الديني وسلبيته على القرآن – وبغض النظر عن صحة التهمة من عدمها- يعني رفض الآخر واجتهاداته، ويظل وجهة نظر تحتمل الصواب والخطأ، ولا يحق لفرد ولا جهة منع الناس من التفكير والنظر في الموروث والاستفادة منه في تفسير القرآن طالما كان ذلك وفق قناعة، وسواء وفق منهج علمي رشيد أو أعوج.. المهم ألا يتم فرض اجتهاد ما بالقوة على الآخرين. ولا عبرة للزمن هنا فما زال الأوربيون وأتباعهم ومقلدوهم يمجدون فلسفة اليونان الأقدم زمنيا، ويمجدون رموزها على ما فيها من خرافات وأباطيل يستحي منها العقل!

الهوامش:

  1. انظر الدراسة المتميزة التي لا مثيل لها عن مدارس تفسير القرآن الكريم في التاريخ الإسلامي: التفسير والمفسرون للشيخ محمد حسين الذهبي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى