فكر

في وجه التزييف العلماني (الجزء الرابع)

الفجر الكاذب للإصلاحات الدينية المسيحية واليهودية

الاتهام الرابع

[ أدى الإصلاح (المسيحي) لاحقا إلى تكريس أهمية العقل والروح الفردية:  أي تحرر الإنسان من السلطات الدينية والاجتماعية، والرأسمالية: أي الإبداع والانتاج في الحياة الدنيا كوسيلة للنجاة في الآخرة!].

على الرغم من عدم وجود تهمة مباشرة ضد الإسلام في هذه العبارة؛ إلا أن الهدف الملتوي واضح فيها؛ فكأنهم يقولون لنا إن الإصلاح الديني المسيحي نجح فيما فشل فيه الإسلام، وأن لا سبيل لنا إلا فعل ما فعله الإصلاحيون المسيحيون حتى نصل إلى مرحلة تكريس أهمية العقل، وتحرر الإنسان من هيمنة السلطات الدينية والاجتماعية، والإبداع والانتاج في الحياة! 

وفيما يلي ملاحظاتنا على الاتهام:

1- من عدم الدقة وتقدير الحقيقة أن يقال إن الإصلاح المسيحي (أدى) إلى تكريس أهمية العقل (ولو بالاحتراز بكلمة: لاحقا)؛ فالأمر يبدو إيحاء بأن هناك ارتباطا مباشرا: سببا ونتيجة بين الطرفين، لسبب بسيط وبديهي وهو أن أفكار الإصلاح المسيحي كانت في جملتها رافضة للعلوم العقلية، والفلسفة، وهيمنة العقل، وذات نزوع لتقديس الكتاب المقدس، والالتزام به حرفيا، وعدم تجاوزه. فكيف يمكن إذن القول – أو الإيحاء- عن الإصلاح المسيحي إنه قد أدى إلى تكريس أهمية العقل؟ ( انظر الملخص الموضوعي لأبرز أفكار الإصلاح البروتستانتي في الاتهام الثالث). 

الأمانة العلمية والأخلاقية واحترام عقل الإنسان تفرض عدم التهويش بالأحكام القاطعة في مثل هذا الأمر لتحقيق هدف مزيف!

 2- الثابت تاريخيا أن ظهور أفكار التنوير وهيمنة العقل قد كان في زمن متأخر عن الإصلاح الديني وضدا عليه، ومعاديا للدين وللمسيحية بالذات، ووفق عزمي بشارة فالعقلانية لم تنشأ أصلا في أوربا:( لم تنشأ العقلانية في أوربا فلها أوطان إضافية غير أوروبا.. ما نشأ في أوروبا هو العلم الحديث الذي وضع الأساس لتطوير العقلانية وتحويلها إلى فكر سائد بفعل أساليب الانتاج والإدارة الحديثة وفي مركزها: العلم).(11) 

وأما ظهور العلمانية فكان بالذات من نتائج مساؤيء حركة الإصلاح الديني ذاتها، فقد أدت إلى نشوب حروب دينية دامية بين البروتستانت والكاثوليك لم تعرف أوربا مثيلا لها، وإلى حدوث ممارسات بشعة من الإرهاب الديني ضد المخالفين المسيحيين من المذهبين، وظهور محاكم التفتيش الأسوأ في التاريخ الإنساني مما أدى على مدى طويل إلى ظهور فكرة فصل الدولة عن الدين في البلدان البروتستانتية، وفصل الدين عن الدولة في البلدان الكاثوليكية. ووفقا لعزمي بشارة فإن إسهام الإصلاح الديني غير المقصود في نشوء العلمانية كان في تأثير الفكرة البروتستانتية في أن المؤمن شخصية فردية مستقلة يفترض أن يقرأ ويفهم بشكل مباشر من الكتب المقدس دون وسيط.(12)

 3- في الخلاصة فإن حركة الإصلاح المسيحي ظلت وفية في إيمانها للخرافات التي يزخر بها الكتاب المقدس وعقائد وطقوس المسيحية في الإيمان بأن الله يتكون من ثلاثة أجزاء، أو أن المسيح هو الله، أو أنه ابن الله كما هو الحال مع بقية المذاهب المسيحية القديمة، ومثل الإيمان بالمعمودية، وأن الخبز والماء الذي يتناوله المسيحي في الكنيسة يتحول إلى جزء من جسد ودم المسيح حقيقة!

 وفي المقابل فإن الإسلام عقيدة اعتمدت على مخاطبة العقول، ودعوتها للنظر في الكون، والحياة، وخلق الإنسان وعِبَر التاريخ الإنساني لتحديد موقفها من الإيمان والكفر. ومن أساسيات الشريعة الإسلامية أن العقل هو مناط التكليف وشرطه فإذا فقد العقل – ولو في حالة النوم الطبيعية- زال التكليف فورا.. ومن الاهتمام بالعقل ودوره في حياة الإنسان كان تحريم كل ما يضره مثل شرب الخمور والمسكرات لأنها تفقد الإنسان عقل تصرفاته وأقواله! 

3- ليس صحيحا أيضا القول إن الإصلاح المسيحي قد أدى إلى التحرر من السلطات الدينية والاجتماعية؛ فكما تدل أفكار الإصلاح المسيحي فقد عمل الإصلاح الديني على ربط المسيحيين بالكنيسة والدولة: اجتماعيا وسياسيا على حد سواء بتأصيل ديني متشدد في ضرورة الارتباط بالكنيسة وبطاعة الدولة والحكام ولو كانوا ظلمة، وعموما فقد كان من أبرز نتائج الإصلاح البروتستانتي أنه أدى إلى هيمنة الدول على الكنائس الوطنية، وتيسيرها وفق مصالح الدول والحكام..  وإن ظلت الكنيسة الكاثوليكية تتمتع بهامش من الاستقلال في المناطق الكاثوليكية بسبب وجود كنيسة روما ونفوذها في العلاقات بين الدول الأوربية.. ويؤكد د. عزمي بشارة أن البروتستانتية عملت على (دنيوة الدين) أي جعل الدين مرتبطا بالدنيا أو تديين الدنيا – إن جاز التعبير- بإدخاله في حياة الناس اليومية كأخلاق ونمط حياة، وليس فقط كمجرد شعائر وتنفيذا لتعاليم الكنيسة.. أي أن الإصلاح الديني عمل على تحويل المسيحية إلى دين ودنيا!(13) 

ويؤكد د. عزيز العظمة النتيجة ذاتها إذ يقول:( كانت حصيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر أمورا تخالف الصورة التي ينشرها بعض المثقفين العرب حول العلاقة بين الدين والدولة في أوربا.. فقد كانت حصيلة هذين القرنين توسع المسيحية البروتستانتية والكاثوليكية في المجتمعات وتحويلها من مجتمعات مسيحية اسما إلى مسيحية بالفعل.. وتوسمت تلك البلدان في الأكليروس الفئة القائمة على توحيد الثقافي والقانوني.(14) 

4- وعن علاقة الإصلاح الديني بالإبداع والانتاج في الحياة الدنيا من خلال تكريس الرأسمالية.. فالأمر كذلك لم يكن مقصودا لذاته.. وصحيح أن بعض تعاليم الإصلاح البروتستانتي في مصادرة أراضي الكنيسة في ألمانيا، وفي  إباحة كالفن (أحد زعماء الإصلاح الديني) الربا، والحث على الثراء، والجدية في العمل أدى إلى (دعم) التطور الاقتصادي الرأسمالي؛ إلا أن ذلك تم بغير قصد كما هو مقرر عند المؤرخين، والذي حدث حقيقة أن الإصلاح المسيحي عمل على تقوية المشاعر الدينية، والالتزام القوي بتعاليم المسيحية وتمثلها في حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، أو إن جاز القول: إن تلك التعاليم التي تشددت في دعوة المسيحي إلى الجدية في دينه والتزامه قد أدت إلى تعزيز الروح الفردية الجادة التي تحترم العمل وهي ما تحتاجه الرأسمالية.(15) 

وعلى أية حال فالأمر ليس مبعثا للفخر والتباهي دون احتراز؛ إذ علينا ألا ننسى أن تلك الروح الرأسمالية قد حملت شرورا فظيعة للإنسانية، وأنتجت مآسي فادحة في حق الإنسان الأوربي والغربي بسبب الجشع والطمع والتنافس اللا إنساني الذي ساد عهود الرأسمالية المتوحشة، والتي كان من نتائجها ظهور العديد من الحركات الاجتماعية والاشتراكية والشيوعية الرافضة للنهج الرأسمالي المتوحش، والتي عملت بمستويات مختلفة على إنقاذ البشرية من جرائم الرأسمالية ما بين دعوات إصلاحية متدرجة، وحركات متطرفة دعت إلى إلغاء الرأسمالية من جذورها.(16)

و(لاحقا) كان أبناء جغرافية الإصلاح الديني المسيحي مشاركين فعلا في انتاج إحدى أكبر مآسي البشرية في زمن الاستعمار الحديث، والذي كان أحد مراحل تطور الرأسمالية المتعطشة للأسواق لتصريف منتجاتها، والباحثة عن مصادر رخيصة للمواد الأولية في قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وفي سبيل تحقيق هذين الهدفين تم تدمير حضارات، وإفناء عدد من شعوب تلك المستعمرات، ومحو دياناتها، وثقافاتها ولغاتها المحلية، ونهب ثروات الشعوب المستعمرة، وإلى يوم رحيل جيوش الاستعمار الاوربي ظلت المستعمرات فقيرة جاهلة متخلفة (باستثناء العواصم التي كانت محل عمل الإدارات الاستعمارية).. وما تزال معظم هذه البلدان تعاني آثارا من النهب الاستعماري القديم، والذي أضيف إليه دعم أنظمة ديكتاتورية فاسدة مرتبطة ببلدان الاستعمار القديم، ومن نافلة القول إن الاستعمار القديم لم ينته تماما بعد أن تطور إلى صورة الاستعمار الجديد الذي يواصل دور سلفه ولكن بدون احتلال عسكري مباشر!

وجه التزييف العلماني 2 في وجه التزييف العلماني (الجزء الرابع)

الاتهام الخامس

[ أنجزت اليهودية إصلاحها الديني متأثرة بالإصلاح المسيحي على يد سبينوزا لتكون الدين التوحيدي الثاني الذي يتصالح مع نفسه ومع العصر]

وهذه أيضا من الاتهامات غير المباشرة التي تزعم أن المسيحية واليهودية قد أنجزتا إصلاحهما الديني، وتصالحا مع العصر، ولم يبق عصيا على الإصلاح والتصالح مع العصر إلا.. الإسلام! وهي مليئة بالأخطاء نتيجة ثقافة القص واللصق، وهاكم الدليل:

1- تتضمن الفقرة السابقة خطأ كبيرا شاع بسبب الجهل واستسهال إطلاق الصفات، وتدل على أن كاتبها نقلها (نسخ ولصق)، فالمسيحية المعروفة ليست دينا توحيديا بأي صفة، وكذلك اليهودية كما هو واضح فيما ورد في التوراة من حكايات عن الله تعالى لا تتفق مع توحيده وإفراده بصفات العظمة والتفرد والجلال، والأدق وصفهما بأنهما ذات أصل سماوي أو وحي سماوي إن كان ولا بد من التعميم!

وكيف يمكن أن تكون المسيحية – في حالتها المعروفة- دينا توحيديا؛ وأتباع طوائفها الرئيسية الغالبة بين من يؤمن أن الله ثالث ثلاثة: الأب والابن والروح القدس، وبين من يؤمن أن المسيح هو ابن الله، وبين من يؤمن إن المسيح هو الله وأن له مشيئتان لاهوتية (غير بشرية) وناسوتية (بشرية)! فأين هو التوحيد هنا؟ إلا إذا كان الأمر مجرد رص كلمات اعتمادا على مقولة: (هو في حد بيقرأ؟).

وهذه الحقيقة تبطل الزعم القائل بأن المسيحية قد أنجزت إصلاحها؛ فهو قول متهافت، وتدحضه حقيقة أن عقائد المسيحية الرئيسية ما تزال كما هي منذ حرف الدين الذي جاء به المسيح عليه السلام، وحقيقة أن الإصلاح البروتستانتي لم يشمل المذهبين المسيحيين الكبيرين التاريخين: الكاثوليكي والأرثوذكسي اللذين ظلا تقريبا على ما هما عليه.

2- من الأخطاء الفاحشة في الفقرة الزعم أن الإصلاح اليهودي (تم) على (يد) سبينوزا تأثرا بالإصلاح المسيحي للأسباب التالية:

أ- هناك فارق زمني كبير بين الإصلاحين المسيحي واليهودي يبلغ قرابة مائتي عام؛ فالأول ظهر في 1517والثاني ظهر في1750. وخلال تلك الفترة الطويلة ظهرت أفكار ومباديء هيمنت وغيرت حال الفكر والثقافة في أوربا على الضد تماما من أفكار الإصلاح المسيحي، وتجاوزته تماما.(17) 

ب-   هناك تجاوز كبير في القول إن الديانة اليهودية أنجزت إصلاحها متأثرة بالإصلاح المسيحي؛ لسبب بسيط وهو أن معظم أجندة الإصلاح اليهودي (الهسكالاه) قد غلب عليها التأثر القوي بعوامل أخرى ليس لها علاقة بالإصلاح المسيحي، واختلطت تلك الأجندة بأفكار إلحادية وصلت إلى درجة إنكار أسس الدين نفسه مثل التشكيك في صحة الكتاب المقدس الذي يقدسه الإصلاح المسيحي ويعده مرجعيته الدينية المقدسة الوحيدة، وإنكار أن اليهودية دين من عند الله، ورفض عقيدة البعث والحساب يوم القيامة! ومن ثم فلا يجوز القول إن الإصلاح اليهودي قد تأثر بأجندة الإصلاح المسيحي بل في الحقيقة كان متناقضا معه؛ لأن هذا الأخير كان إصلاحا في إطار المسيحية وليس نقدا لها، ورفضا لهيمنة الكنيسة ورجال الدين وليس للدين، ويهدف إلى تقوية الحضور الديني في حياة المجتمعات المسيحية، ويعزز مكانة الكتاب المقدس مرجعية للدين والدنيا، كما كان الأمر في زمن ظهور المسيحية (وفق مفهومهم). 

ج- لم (يتم) إنجاز – أو للدقة ظهور- الإصلاح اليهودي الذي ظهر في منتصف القرن الثامن عشر على (يد) سبينوزا (1632-1677) لأنه توفي قبله بمائة سنة، لكن الذي كان رائد الإصلاح الديني هو الفيلسوف اليهودي موسى مندلسون (1729-1786) الذي تأثر بفيلسوف التنوير الأوربية كريستيان وولف، وليبنتيز الفيلسوف العقلاني، وخرج منهما بفكر علماني. أما تأثير سبينوزا الحقيقي (الذي ينسف الإصلاح المسيحي من جذوره ناهيكم عن أن يتأثر به) فهو أنه كان رائد مدرسة النقد التاريخي للكتاب المقدس، وأول من كتب نقدا للروايات التاريخية في التوراة خاصة وفق قواعد لغوية وتاريخية شرحها باستفاضة في كتابه الشهير (اللاهوت والسلطة)، في حين أن الذين سبقوه من نقاد الكتاب المقدس اقتصر نقدهم على نفي نسبة التوراة والأسفار إلى موسى وغيره من الأنبياء. ولا شك أن موجة نقد الكتاب المقدس كانت أساسا لإحدى أفكار الإصلاح اليهودي في رفض قبول صحة التوراة التي شاعت في ذلك العصر، لكن القول إن الإصلاح (تم على يد سبينوزا) خطأ كبير إن لم نقل: جهل أكبر! 

[ مر نقد الكتب المقدس بعدة مراحل، ففي المرحلة الأولى ظهر النقد من مجموعة من أحبار اليهود في الأندلس (الحبر الطبيب إسحاق بن بشوش الطليطلي، والحبر المفسر إبراهيم بن عزرا الغرناطي، والفونس نوستادو أسقف آبلة) الذين  وجدوا في التوراة أخطاء وتناقضات أثبتوها بحذر شديد.. والمجموعة الثانية نفت صحة نسبة الأسفار الخمسة الأساسية في التوراة للنبي موسى مثل أندريا بودتشتاين الذي كان من مرافقي مارتن لوثر ثم فارقه، وإندرياس ماسيوس، ونويل جورني الذي وشى به الكالفنيون الإصلاحيون البروتستانت لرجال محاكم التفتيش فحوكم وشنق على رؤوس الأشهاد في مدينة ميتز عام 1582.. وفي العصر الحديث سبق توماس هوبز سبينوزا، وجاء بعد هذا ريشارد سيمون ويوحنا لوكلير- من رواد فلاسفة المرحلة الأعلى الثالثة من نقاد العهد القديم (التوراة) الذين قاموا بتأصيل النقد التاريخي للعهد القديم وفق قواعد لغوية وتاريخية.](18) 

د-  الثابت أن أبرز ومعظم أسباب ظهور حركة الإصلاح الديني اليهودي كانت تأثرا بفلسفة التنوير الأوربية في تمجيد العقل كمصدر أول للمعرفة والأخلاق، وإخضاع الدين لسلطانه، وهو العصر الذي ساد فيه الإلحاد والشك في الدين وخاصة في مصداقية الروايات التاريخية الموجودة في التوراة المقدس والمرجعية الأولى للإصلاح البروتستانتي، وتأثرا بالثورة الصناعية وسيادة القيم النفعية التي جذبت اليهود للانخراط في الحياة العامة، وزمنيا فقد ظهرت بواكير هذه التطورات الفكرية والعقلية والاقتصادية  مع عصر العلم والعقل  في القرن السابع عشر أي بعد قرن من الزمان بعد ثورة مارتن لوثر، وقبل قرن من الإصلاح اليهودي. 

ه – ومما يعزز الاختلاف الجذري بين الإصلاحين؛ أن الإصلاح اليهودي كان أكثر تسامحا مع الآخرين، وداعيا للتسامح والتقارب مع الأديان الكبرى، ولاندماج اليهود في مجتمعاتهم، ونبذ الأفكار العنصرية، وفكرة القومية اليهودية، وفكرة تأسيس كيان يهودي في فلسطين… على عكس تطرف الحركة الإصلاحية المسيحية في معاداتها للآخرين وتكفيرهم، والتحريض على قتلهم، ورفضها لأي نوع من التقارب أو الحوار معهم سواء في إطار المسيحية أو خارجها، والعمل على تأسيس مجتمعات نقية من الأديان المسيحية الأخرى.. والسبب الراجح هو اختلاف منابع التأثير لكلا الإصلاحين اختلافا جذريا. 

و – كان الإصلاح اليهودي رد فعل على ممارسات التهميش والاضطهاد الذي عاناه اليهود في القارة الأوربية من قبل المسيحيين، وإيمان نخبة اليهود الداعين للإصلاح بضرورة انفتاح اليهود على الثقافة الأوربية، والخروج من حالة الانعزال عن الآخرين. وكما هو ثابت فإن دعاة الإصلاح المسيحي والمسيحيين لم يكونوا مثل يهود أوربا يعانون من التهميش والإهمال والعزلة بسبب ديانتهم، كما أنهم في مرحلة ما شنوا حملات عنصرية ضد اليهود، ورفضوا الاندماج معهم. 

ز- لا يمكن القول إن الإصلاح اليهودي قد نجح في (إنجاز) إصلاحه الديني، فالثابت تاريخيا أنه قد فشل في تحقيق أهدافه نتيجة عوامل عديدة، ونجحت الحركة الصهيونية – المتناقضة أهدافها مع مباديء الإصلاح اليهودي- في سحب البساط من تحته، وكرست اليهودية في صيغتها العنصرية الملتزمة بخرافات التوراة والتلمود وكتب الحاخامات، ونجحت في تأسيس دولة إسرائيل القائمة على العنصرية والكراهية والتوحش والعنف ضد الآخر رفضا لأفكار الإصلاح اليهودي. وبالنظر إلى مآلات الديانة اليهودية الغالبة اليوم وسيطرة الصهيونية عليها، وممارساتها العنصرية الإجرامية في فلسطين؛ فالقول إن اليهودية قد تصالحت مع نفسها ومع العصر تصير نكتة حداثية سمجة تستحق السخرية حتى من قبل اليهود أنفسهم!(19)

ودعاوى الإصلاح الديني الجديد 5 في وجه التزييف العلماني (الجزء الرابع)

هل تأثر الإصلاح اليهودي بحركة الإصلاح المسيحية؟

وهذه موازنة موضوعية بين أبرز أفكار الإصلاحين: المسيحي واليهودي للتأمل في حقيقة العلاقة بينهما.. ولنعرف صحة أو عدم صحة القول إن الهسكالاه تأثرت بالإصلاح المسيحي بعيدا عن الأحكام الجزافية عن الظواهر التاريخية لا تفيد يقينا ولا معرفة:

[ ما أمامه (رقم) فهو من أفكار الإصلاح المسيحي وما أمامه (-) شرطة هو من أفكار الإصلاح اليهودي]

1- العودة إلى الكتاب المقدس كمصدر وحيد للعقيدة، ورفض كل ما يعارضه، وتجسيد المسيحية تجسيدا حقيقيا كما كانت في زمن المسيحيين الأوائل. 

– الإيمان بأن اليهودية ليست دينا من عند الله، وإنكار عقيدة البعث والحساب في الآخرة، وأن الكتاب المقدس ليس من عند الله بل من صنع البشر، ورفض الاعتراف بأي جانب في اليهودية يتنافى مع العقل، والإيمان أن العقل أساس المعرفة والأخلاق بدلا من الدين! 

2 – فرض الرقابة الدينية على السلوك والفضيلة في المجتمع وأماكن اللهو ومشارب الخمور، وفرض أشد العقوبات على المخالفين والمنحرفين، وتحريم الرقص والغناء والتمثيل على المرأة. 

– إدخال الموسيقى والأناشيد الجماعية في الصلوات، والسماح باختلاط الجنسين أثناء أدائها! 

3- ضرورة فرض التجانس الديني في المجتمعات وفقا لمقولة الناس على دين ملوكهم، ومبدأ دين واحد لدولة واحدة. 

– اليهود ليسوا أمة بل جماعة أو طائفة دينية، ولا وجود لقومية يهودية نقية أو شعب يهودي واحد. وضرورة تكييف وصبغ مواقف اليهود وعقائدهم وتطبيقاتهم الدينية لمطالب وأهداف الجماعات الغربية الحديثة. 

4- الالتزام بالتعاليم والأخلاق الدينية المسيحية التزاما حقيقيا في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، وفي كل شؤون الحياة كالمطعم والمشرب والملبس، والمحافظة على أداء الصلوات الجماعية، وإلزامية الذهاب إلى الكنيسة لسماع المواعظ. 

– لا اعتبار لأي تشريعات يهودية في المأكل والملبس وطهارة الكهنة. 

5- التعليم الديني ومحو الأمية الدينية مقدم على التعليم الدنيوي، وكراهية العقل ورفض الفلسفة والفكر اليوناني والروماني الوثني.

 –  استبدال العلوم الحديثة العلمانية بدراسة التلمود، والتأثر بفكر التنوير الأوربي والفلسفة المادية. 

6- الدعوة إلى شن الحروب المقدسة ضد المناطق المخالفة للعقيدة البروتستانتية، وخوض حرب مقدسة ضد الكنيسة في روما لأن البابا هو عدو المسيح، وعدم التسامح مع المخالفين مذهبيا ولو كانوا في إطار المذهب البروتستانتي نفسه، ومن باب أولى المخالفين دينيا. 

– التسامح والتقارب مع الأديان الأخرى وخاصة المسيحية والإسلام.

الهوامش:

11- عزمي بشارة، مصدر سابق، ج2م1، ص184. 

12- بشارة، مصدر سابق، ص258. 

13- بشارة، مصدر سابق، ص 257و259. 

14- العلمانية من منظور مختلف، مصدر سابق، ص26 

15- بشارة، مصدر سابق، 257 و258+ مختصر قصة الحضارة، ص356. 

16 – يمكن مراجعة أعمال أدبية عالمية صورت تلك المآسي مثل: روايات تشارلز ديكنز: أوليفر تويست ودافيد كوبر فيلد، والبؤساء لفيكتور هوغو، وأوبرا البنسات الثلاثة لبريخت، وكذلك مذكرات شارلي شابلن. 

17 – مختصر قصة الحضارة، مصدر سابق، ج4، ص131. 

18 – انظر: سمير قدوري، محاضرة عن تاريخ نقد العهد القديم، ألقاها في دار الحديث الحسنية بالرباط في 20/10/2010… موقع ملتقى أهل التفسير. واللاهوت والسلطة، سبينوزا، ترجمة د. حسن حنفي. تقديم د. فؤاد زكريا. نسخة إلكترونية. 

19- انظر: يهودية إصلاحية، ويكيبيديا+ موقع المنتدى التنويري الثقافي الفلسطيني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى