آثار

العُكفة.. والغداء الأخير (1 – 2)

حِكاية ثورية رائعة *، تشربت عناوينها المُلفتة مُنذ صغري، وحين وجدتها مُبعثرة الجوانب؛ قررت الإيغال في لم شتات تفاصيلها، مُستعينًا هذه المرة بفيض الأمكنة، ابتدأت الوقائع من الوهلة الأولى تنساب إلى مَسامعي طَرية عذبة، مَشحُونة بـالتباهي، مَحفُوفة بـالغبطة، لحظتها قلت في خاطري عن هذه الانتفاضة المـُختلفة: إنَّها المجد الذي ورثه الجميع، وعمل لأجله الجميع.

نحن اليمانين جُبلنا على أنَّ كرامتنا فوق كل شيء، وإنْ كانت هذه الكرامة قد رضخت، وبعثر بهيبتها فوق التراب؛ بفعل جبروت الطغاة من بيت حميد الدين، وأسلافهم، الذين استغلوا جهل الشعب المـُشبع بالثقافة الدينية البسيطة، وأوهموهم أنَّهم يحكمون بأمر الله، وأنَّ طاعتهم والرضوخ لاستبدادهم من طاعة الله، وفق تبريرات خادعة، كانت أساس سلطتهم، ومصدر قوتهم، وقوة من أتوا بعدهم، وما يزال – للأسف الشديد – لتلك المأساة الخادعة والمُتجددة مُتسع وبقية.

hashed 43 العُكفة.. والغداء الأخير (1 - 2)

الطلب الفاجعة

كانت تصرفات عساكر الإمام (العُكفة) تُثير الرعب والخوف والغضب عند كثيرين، وكان الصبر على أذاهم سمة دائمة تدور في بوتقة طاعة الله، وطاعة ولي الأمر، وفي حال تجاوزت تلك التصرفات الرعناء ما لا يستسيغه العُرف، ولا التدين العفوي البسيط، كان التَمرد والثورة.

ما حَدث في صَنِمَات، وهي إحدى عُزل ناحية المِسراخ التابعة لجبل صبر الأشم، في مُنتصف مايو من العام 1920م، من انتفاضة أو تَمرد، تدور في ذات المسار الذي أشرنا إليه آنفًا، ومبعثها تصرفات رعناء قام بها حوالي 50 فردًا من عساكر الإمام يحيى، أرسلهم عامل صبر حسين بن محمد جبالة لجمع واجبات الجبل، إلا أنَّ أولئك العسكر خرجوا عن السياق المعهود للمأموريات، إلى سلوكيات أكثر شذوذًا، نفد عندها الصبر، وتوقفت الطاعة، وثارت الكرامة.

ذات مَساء، وأولئك العساكر ما زالوا مُقيمين في عددٍ من قُرى عُزلة صَنِمَات، ودورها العتيقة، كدار المصرع، ودار النكر، ودار النجادي، ودار الزَرَبة، ودار السقيفة، استخف قائدهم العريف حمود الرداعي بالمواطن محمد عبدالمجيد العقور (نسبة لقرية العقور)، وطلب منه أنْ يُرسل إليه زوجته (الشوفة) كي تدلك له قدميه *، تلقى المواطن ذلك الطلب الفاجعة ببرود شديد، مُجيبًا بالقبول، وبأنَّه سيجلب السمن البلدي – أداة التدليك – بكلتا يديه.

الانتقام لحظتها كان هو القرار الوحيد الذي كَتمه الثائر محمد عبدالمجيد العقور في نفسه، وما إنْ أبلغ أهله وذويه وأصحابه بذلك، وبالأخص رفاقه الثوار من صنمات ومن المناطق المُجاورة، كعبدالحميد شمسان، وعبدالحميد نُعمان، وعبدالولي عبدالملك، ومحمد غالب مُحسن، وإبراهيم هزاع سعيد، وحمود هزاع سعيد، وغيرهم، حتى قُرعت الطبول، وذُبحت الذبائح؛ وكأنَّ عُرسًا سيُقام، وهو الـمَدخل للخُطة المُحكمة التي اتفقوا عليها جميعًا، وانطلت على العساكر الإماميين وقائدهم الرداعي.

حُشود العُرس الوهمي تـوالت من قُرى عُزلة صنمات، ومن قُرى العُزل المجاورة، وبالأخص من عُزلتي خُريشة، وحَصْبَان، والعساكر – في الدور السابق ذكرها – مُنتظرون للغداء، وتدليك الأقدام! وبذات السكاكين التي ذبحت بها أثوار الوليمة، وبالجنابي أيضًا، فُصلت رؤوس بعضهم عن أجسادهم، ثم وضعت بكبرياء فوق مائدة غداءهم الأخير، الذي هموا بتناوله لتوهم.

وتجسدت تفاصيل ذلك المشهد الانتقامي بقيام الثائر محمد عبدالمجيد العقور وأصحابه بالإجهاز على العساكر المُتواجدين في قريته، فيما تولى الثائر عبدالحميد شمسان مهمة الإجهاز على العساكر المُتواجدين في داري المصرع، والنجادي، الواقعان في مركز العُزلة (قرية صنمات)، وتولى الثائر محمد غالب محسن من عُزلة خريشة مَهمة الإجهاز على العساكر المُتواجدين في دار الزَرَبة المُطل على منطقته (خريشة)، والأخيرة تقع أسفل عُزلة صَنِمَات من جهة الجنوب.

حاول عُكفيان الهروب من ذلك الموت المُحقق، نجح أحدهما بالقفز من سطح أحد تلك الدور، وذهب مُخضبًا بدمائه إلى من يهمه الأمر، إلى أمير تعز علي الوزير (الذئب الأسود)، أما الآخر فقد لحق به الثائر عبداللطيف محمد شمسان، تعارك معه، وحين استعصى عليه، طلب من أخيه أنْ يطلق الرصاص عليهما، امتنع الأخ، فخاطبه: «لا يهم اقتلني معاه»، فأطلق الأخ النار، وأصيب عبداللطيف في يده، أما ذلك العُكفي فقد خرَّ صريعًا على الفور.

دخلت زوجة المواطن محمد العقور إحدى الدواوين المليئة بالجثث، وداستها بأقدامها، وهي تقول: «أني بافحسكم الآن»، ثم خضبت يدها بالدماء، وحطت ثلاث نقاط على وجهها، نقطتين على خديها، ونقطة على جبينها، وأصبح ما فعلته زينة عند النساء لعدة سنوات، ليستبدل الدم فيما بعد بالخضاب.

يفتخر أبناء عُزلة صَنِمَات بـانتفاضتهم تلك، ويتناقل الجميع أحداثها المُتسارعة باعتزاز يشوبه ألم، خاصة عند من عايشها عن قرب، فهذا الشيخ الطاعن بالسن عبده أحمد الحيدري رحمه الله (125 عامًا تقريبًا) – هكذا كانت حِسبته عام التقيناه (2009م) – تجاعيد الزمن المرسومة على جبينه تجعل من يقابله يخال البسمة والحديث شاقًا عليه، لكنه تبسم وتحدث إلينا بصعوبة.

أطلعنا الشيخ الحيدري على جميع التفاصيل المُرتبطة بذات المكان، وإذا ما نسي شيئًا ما، ذكره من حوله من الأبناء والأحفاد، وما عليه إلا أنْ يُؤكد أو ينفي، وإنْ كانت أغلب الأحداث السابقة مُستقاة منه، إلا أنَّ ضرورة التدقيق جعلتني أستثني ما لا يتوافق مع مِصداقية البحث والتقصي، ولعل ألأروع في حديثه حين قال باعتزاز بالغ، وتواضع جم: «أنَّ كل شيء يهون، إلا الكرامة».

وتحير الأمير

الرواية الرسمية الإمامية المُتوكلية لتلك الانتفاضة، حَرَّفت أسبابها، وأغفلت عفويتها، وشيطنت من قاموا بها، وأتت بِمُبررات واهية تتفق وردة الفعل الانتقامية الآتي ذكرها، بل أنَّ عبدالكريم مطهر – المُؤرخ الرسمي للإمام يحيى – في نقله لأحداثها، جعل منها ثورة منظمة، وقال أنَّ أبناء صَنِمَات استغلوا توجه عساكر الإمام من تعز إلى زبيد لإخماد إحدى التمردات هناك (يقصد انتفاضة قبيلة الركب التي سنأتي على تناولها)، وقاموا بتمردهم ذاك.

وأوضح ذات المُؤرخ ذلك المشهد بقوله: «ولما توجه أكثر الجند من تعز إلى زبيد، بقي الأمير – يقصد علي الوزير – في قلة من العسكر، ولم يكن حينئذ إحساس لأقل شر، فاغتنم ذوو النفاق فرصة تلك الحال، وأوحوا إلى شيطانهم ما أوحوا من شر الأقوال».

hashed 124 العُكفة.. والغداء الأخير (1 - 2)

ثم يمضي المُؤرخ مُطهر في نقل تفاصيل تلك الانتفاضة بكلام إنشائي مُمل، تكرر في كتابه (كتيبة الحكمة) مرات عديدة، إلى أنْ قال: «فإنَّها سولت لهم أنفسهم الشيطانية الإقدام على العسكر المذكورين، واغتيالهم أقبح اغتيال، والتمثيل بهم بعد التالي منهم على ذلك، وكانت فتكة شنيعة، اضطرب لها حبلُ الأمن في جبل صبر جميعه، لا في صَنِمَات فقط».

لم يبتعد المُؤرخ أحمد الوزير كثيرًا عن ذلك المسار المُتخبط، أسمى تلك الانتفاضة بـ (المُؤامرة الخطيرة) التي حاك خطتها بعض زعماء المنطقة، وبإيعاز من عامل تعز أحمد بن علي باشا المُتوكل! وأضاف: «وكانت صَنِمَات مُنطلق هذه المُؤامرة؛ لحصانة موقعها، ومناعة بيوتها، وبأس رجالها، وكانوا يأملون أنَّ تحصين القرية وسورها، وارتفاعها في قمة الجبل، سيمنع التغلب عليها، فإذا امتنعت وتغلبت تداعى سائر الجبل، وتماثل أهلوه على نحو ما فعلت صَنِمَات»!

وأضاف سببًا آخر لتلك الانتفاضة، غير الذي ذكرناه، حيث قال: «وبدأ ذلك التمرد عندما أرسل عامل صبر السيد حسين جبالة باستدعاء أحد المشايخ لحضوره للانتصاف والشريعة مع خصم ضعيف، فقتلوا الجندي، ولم يأتِ منه خبر، ولما لم يعد؛ أرسل العامل اثنين من الجنود، فقتلوهما، ولم يعد لهما خبر، ثم أرسل خمسة من الجنود، فقتلوا بعضًا منهم، وفرت البقية، فأرسل عليهم العامل خمسين جنديًا، فتلقاهم أهل صَنِمَات بالترحاب، وفرقوهم في البيوت كضيوف للغدر بهم».

وذات السبب كرره المُؤرخ حمود الدولة، وبصورة مُختزلة، ليس فيها إشارة لسقوط ضحايا، وغلب على سرده الإطناب والسجع، وقد أكمل ذلك المشهد بقوله: «وكانوا – أي ثوار صَنِمَات – قد احتالوا بتفريقهم – يقصد تفريق العساكر – للضيافة، في البيوت هنالك، فساعد بعضهم، وتحذر آخرون عن ذلك، ولما أحضروا غداء ذلك اليوم المتواعد الغدر فيه، باشر كل جماعة من كان لديه».

تلقى أمير تعز علي الوزير ذلك النبأ الرهيب بذهول شديد، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «فلم يشعر الأمير وهو بتعز مُقيم، إلا بما كان من أهل صَنِمَات من البغي والعدوان، ومُتابعة الشيطان، وإقدامهم إلى اغتيال العسكر.. وتحير الأمير لقلة ما لديه من الجند، وخطر الحال، وما رآه من الجد، وقد أظهر أولوا النفاق ما في ضمائرهم من الإفساد، وأكثروا الإرجاف والإبراق والإرعاد، فلم تكن لديه من وسائل الدفاع غير الفزع إلى الله تعالى، والابتهال إليه في حفظ بيضة الإيمان بكمال الانقطاع».

وزاد من قلق الذئب الأسود أكثر، قيام بعض أبناء القُرى والعُزل المُجاورة لصَنِمَات، بمساندة ثوار تلك العُزلة، وعن ذلك قال المُؤرخ حمود الدولة: «وشددهم إلى بغيهم من أظهر المعاونة، وأنَّه لهم لمساعد، وسرى ذلك إلى بعض العُزل، من ناحية الجبل، فعاونوهم باطنا، وكان الاختلال معهم كامنا».

والأشد والأنكى من ذلك، أنَّه – أي الأمير علي الوزير – كان خائفًا من ثورة كُبرى تقتلعه من تعز، ولأنَّ له تجربة مريرة مع سكان جبل صبر الذين استقبلوه أواخر العام الفائت – حال وصوله – بانتفاضة عارمة، هدَّت كيانه، بادر أول ما بادر بإرسال ما لديه من عساكر، رغم قلتهم، وعززهم بأحد المدافع السريعة، وكلفهم بالانضمام إلى عامل صبر حسين جبالة، الذي رابط حينها في قرية الصراري التابعة لعُزلة النجادة، والقريبة من عُزلة صَنِمَات، والواقعة في شمالها الغربي، وبذلك – كما أفاد المُؤرخ مُطهر – توقف اختلال الجبل، وانحصر التمرد في المنطقة الثائرة.

لم يكتفِ أمير تعز بذلك، بل أرسل إلى عامل إب إسماعيل باسلامة طالبًا النجدة، ومن تلك المنطقة ومناطق أخرى جاءه المدد، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «فلم يمض غير أيام قلائل إلا وقد وصلت إلى تعز الجنود من إب وسواها، وكلما وصلت طائفة أرسلها الأمير مددًا للسابقين، فاجتمعت العساكر في الجبل، ووجه الأمير همته إلى إمدادهم بما يحتاجون إليه من الذخائر والأزواد، وأناط كل طائفة بأمير، وأحكم في ذلك التدبير».

من جهته قال المُؤرخ أحمد الوزير، أنَّ عمه الأمير كلف عامل جبل صبر حسين جبالة بقيادة تلك القوت مُجتمعة، التي عددها بأربع سرايا من الجيش النظامي، مسنودين بأحد الـمدافع السريعة، ومعززين بـمجاميع قبلية من الـجيش البراني، غالبيتهم من قبائل بــرط، وأرحب، ونهم، وبلاد الروس، وقِلة من قبائل المناطق الوسطى، ومن قضاء العدين تحديدًا.

استعد في تلك الأثناء أبناء صَنِمَات لحربٍ طويلة الأمد، وتحصنوا في حصونهم المنيعة، التي قال عنها المُؤرخ مُطهر بأنَّها «في غاية الحصانة والمناعة، وأبنيتها تناطح النجوم رفعة، وتماثل الجبال تشييدًا وإحكامًا»، وملأوها بالحبوب والأقوات، وشمروا عن سواعدهم للقتال، إلا أنَّ النزال كان – كما سيأتي – فوق طاقاتهم وقدراتهم المُتواضعة.

ذات جُمعة، وبتوجيه من الذئب الأسود نفسه، شنَّ الإماميون هُجومهم الكاسح على صَنِمَات، ومن أكثر من اتجاه، ومهدوا لذلك الهجوم بضربات المدفعية، ولولا تلك الضربات المُتتابعة، لصمدت حصون تلك العُزلة، ولطال صمود ثوارها، ولقاموا بطرد القوات المُهاجمة، والتنكيل بها شرَّ تنكيل.

أشاد المُؤرخ حمود الدولة على غير عادته بأولئك الثوار، وقال عن ذلك الهجوم، وعنهم: «كان قدوم المجاهدين على من تأبط شرًا من المعاندين، وأنَّه مع منعة بلادهم وحصانتها، كانوا رجالًا مُجربين في الحروب وخوض غمراتها، يعرفهم بذلك كل حديد، ويقر لهم كل قريب وبعيد؛ بل البالغ أنَّهم كانوا في فَترة الدولة الماضية يجتمعون ويحتشدون ويغزون البلاد النائية، وفيهم من الجلد والشدة والبسالة ما وصفهم بها من يعرفهم ممن له عرفان بما مضى أحواله».

أما المُؤرخ مُطهر، فقد أكمل ذلك المشهد بقوله: «فأقبل إليهم – يقصد إلى الثوار – الجند الإمامي كالسيل المُتدافع، وفتح الحرب عليهم، وضربت دورهم بالمدافع، فهدمت منها المشيد، وأسمعتهم من أصواتها صوت الصواعق المُبيد، وبادرتهم الجنود كالعقبان الكواسر بالهجوم، لا يبالون بما يمطرونه عليهم من رصاص بنادقهم، ولا بما يُرسلونه من الأحجار، إلى أنْ قبضوا بعض الدور، وانحصر الباقون في باقيها».

يتبع…

هوامش:

*1-  نشرت بعض فقرات هذه المادة في صحيفة (الجمهورية)، العدد 14922، 27 سبتمبر 2010م، تحت عنوان (ثورة الأصنوم.. ثورة الكرامة)، بعد أخذ شهادات حية لبعض من عايش تفاصيلها وتداعيتها المأساوية، فرحم الله أولئك الشهود الذين قضوا نحبهم خلال السنوات الماضية.

*2-  قيل أنَّ هذه العادة كانت موجودة عند بعض قبائل صنعاء، وذمار، وقبائل آنس تحديدًا، فعندهم إذا أتى مسافر من منطقة بعيدة، وتم استقباله في بيت ما، تقوم المرأة بغسل ودهان أقدام هذا القادم الذي يعتبر ضيفًا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى