ترجمات

لا بوذا (仏) إلا… الله؟ كيف يفهم مسلمو اليابان مفهوم الألوهية في الإسلام

طُرحت هذه المقالة في موقع Genron باللغة اليابانية بقلم الدكتور مجاهد يوهي ماتسوياما في تاريخ 26 يوليو/تموز 2021، وترجمها الدكتور ناوكي ياماموتو إلى اللغة الإنجليزية. هذا المقال هنا هو جزء الترجمة من المقالة الأصلية، مترجمٌ من الإنجليزية.

ترجمة: عادل العامري

قيل إنه لمّا بدأ اليسوعي فرنسيس كسفاريوس (1506 – 1552) مهمته التبشيرية في اليابان، ساوى بين “الإله” وبين “داينيتشي نيوراي” (تعني حرفيًا: الشمس العظمى التي تغدو وتروح)، وهو البوذا(1) الأعلى في طائفة شينغون الباطنية، أحد طوائف البوذية. وأمر الناس أن يعبدوا داينيتشي على إثر هذا. ولكن لمّا تبين له أن “داينيتشي” كان ترجمة خاطئة لمصطلح الإله، تراجع عن قوله وزجر الناس عن عبادته. وذُكِرَ في أحد السجلات أنه لم يكن من ساوى بين اللفظين، بل فعله كهنة طائفة شينغون.

وعلى أي حال فهذا السرد التاريخي غير مهم في سياقنا. فالمهم هو أن كسفاريوس ومن معه يئسوا من الترجمة بعد فترة ونَقْحَرُوا مصطلح الإله من اللاتينية كما هو في اليابانية “デウス – Deus”، وشرعوا مبشرين في اليابان بهذا المصطلح.

فهل ظن كسفاريوس ورفاقه أن ترجمة لفظ “الإله” إلى اليابانية ليس مهمًا البتة؟ كلا بالطبع. فقد كان مبشرو الكاثوليكية مدركين أن ترجمة المصطلحات إلى لغة البلاد التي يرسلون إليها تؤثر على نجاح مهمتهم، وكانوا يكرسون أنفسهم للبحث عن مرادفات لها في تلكم اللغات، ولم تكن اليابان مستثناة من هذا. لكن المبشرون الذين أتوا إلى اليابان تخلوا عن ترجمة مصطلح “الإله”.

ولعل هذه الحقيقة تشير إلى أن اللغة اليابانية لا تحتوي مصطلحًا يفيد معنى “خالق السماوات والأرض”، أو على الأقل لم يكن ثمة مصطلح يفيد هذا المعنى في ذلك الزمان. وقد روى جواو رودريغيز تكوزو (1561-1634) أن كسفاريوس قال: “لم يكن عند اليابانيين “شيء” يطلقون عليه “إلهًا”، هذا لأنهم لم يعرفوا ذاته حتى الآن”.

نشأ جدل كبير بين كهنة الكاثوليكية المشاركين في حملة التبشير في الصين حول ترجمة مصطلح “الإله” في عهد أسرة تشينغ في القرنين السابع والثامن عشر. وفي القرن التاسع عشر اختلف مبشرو البروتستانتية في إنجلترا وأمريكا حول ترجمة لفظ “God – الله”. ففئة قالت بترجمتها إلى “神 – شنغ”، وفئة قالت بترجمتها إلى “上帝 – شانغدي” والتي تعني الإمبراطور الأعلى. ولم يصلوا لنتيجة بعد هذا النقاش، حتى طبعوا في النهاية نسختين من الإنجيل، كل واحدة منها تحمل إحدى الترجمتين. وقد كان لهذا النقاش أثر كبير على ترجمة لفظ الجلالة “الله” إلى اليابانية.

ثمَّ حدا كثير من الأمريكيين من بين المبشرين المسيحيين الذين قدموا إلى اليابان في نهاية القرن التاسع عشر حدو من اختاروا الكلمة الصينية “神 – شين” ترجمةً للفظ “الله”. وكانت نتيجة هذا، وخاصة بعد إصدار ترجمة هيبورن للإنجيل عام 1872، أن الكلمة الصينية “神 – شين” (دون أي تحقيق مختص في دقتها) اعتُمِدت ترجمة يابانية للفظ “God – الله” من الإنجليزية (أو بالأصح، مدلول لفظ “الله” عند النصارى) وأصبحوا يترجمونها على هذا النحو.

بتنا نحن اليابانيون المعاصرون الآن نقبل مصطلح “神 – كامي” (2) ترجمة للفظ “الله” دون تحفظ. لكن الكلمة الصينية “神 – شين” تحمل معنًى آخر عما تحمله الكلمة اليابانية “神 – كامي”. فقد أُعطيت الكلمة الصينية “神 – شين” في اليابانية الحديثة معنى “الله” عند النصارى إضافة إلى معنى “الكامي” في اليابانية.

وكما أشار الكاتب يانابو أكيرا (1928 – 2018)، فإن اللفظ “كامي” قد انحرف عن مساره ضعفين في اليابانية الحديثة. إذ باتت اللغة تستخدم الكلمة “神 – كامي” لتعبر بها عن “الكامي” القدماء في اليابانية، وكذلك لتعبر بها عن آلهة الإمبراطور، وإله النصارى وآلهة الديانات الأخرى. إن كان التدخل اللغوي المرتبط بترجمة لفظ “الله” إلى “神 – كامي” قد أثر على بناء الأمة اليابانية أثناء الحرب وبعدها كما اقترح سوكيتشي تسودا (1873 – 1961)، فإن سلسلة الترجمة التي جعلت “كامي” = “神” = “الله” كانت أعظم ترجمة في ذلك القرن لليابان (أو ربما كانت أكبر خطإٍ في الترجمة؟).

بوذا 仏 إلا… الله؟ كيف يفهم مسلمو اليابان مفهوم الألوهية في الإسلام لا بوذا (仏) إلا… الله؟ كيف يفهم مسلمو اليابان مفهوم الألوهية في الإسلام

لفظ "神 - كامي" في الإسلام (بالعربية)

مشكلة ترجمة “神 – كامي” ليست محصورة على النصرانية فقط، بل هي موجودة في الإسلام أيضًا. إذا كيف يمكننا أن نترجم المقابل العربي لكلمة “إله” أو “الله” إلى اليابانية؟ أو ما هي الكلمات التي استخدمها السابقون؟ أريد أن أدلي بخلاصة المسألة هنا.

هناك كلمتان رئيسيتان في الإسلام (أو العربية بالأصح) تترجمان إلى “神 – كامي”. الأولى هي “الله” اسم العلم للخالق، والأخرى هي لفظ “إله” والتي تعني “المعبود – كلّ ما اتُّخذ معبودًا”. لفظ “الله” هو اسم العلم للخالق ولا يجمع أو يؤنث. أما لفظ “إله” فهو لفظ عام، قد يُقصد به الذات المقدسة “الله”، وقد يُقصدُ به أي معبود في الديانات الأخرى. أحد نظريات اللغة ترى أن لفظ الجلالة “الله” مركب من “أل التعريف” التي ألحقت بلفظ “إله”. ما يعني أن لفظ “الله” يعني “الـ إله”. وكلتا الكلمتان، أي “الله” و “إله” موجودتان في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) التي هي ركن من أركان الإسلام. وغالبًا ما تُترجم هذه العبارة إلى اليابانية “アッラーの他に神は無し – لا كامي إلا الله”، حيث يُنَقْحَرُ لفظ الجلالة إلى “アッラー” بالكاتاكانا، ويُكتب لفظ “كامي” بالرموز الصينية “神”.

ومن مبادئ الإسلام الأساسية أن الله وحده من يستحق لفظ “الإله” ولا شيء سواه. فالله هو “الإله الحق” وأي شيء عُبِدَ من دونه هو “إله باطل”. فكلمة “إله” هي الوصف المباشر لطبيعية الاسم العلم “الله”. وفي غياهب ترجمة لفظ الجلالة “الله” تأتي مسألة ترجمة لفظ “إله” والتي لا تنقص عنها أهمية.

01 01 لا بوذا (仏) إلا… الله؟ كيف يفهم مسلمو اليابان مفهوم الألوهية في الإسلام

القول بأن "الله" هو الكامي "أمى نو ميناكا نوشي"

زاد الاتصال بالمسلمين في اليابان بعد فترة ميجي (1868-1912)، ودخل بعض اليابانيين في الإسلام. ولكن قليلًا من الناس أثارهم أمر ترجمة لفظ “الإله” أو “الله”، وأغلب المفسرين لم يخوضوا في نقاشات حول هذا إلا نقاشات سطحية، هذا إن كانت تسمى نقاشات أصلًا.

كان تاناكا إيبي (1882 – 1934) واحدًا ممن انحازوا إلى أكثر المواقف البانغلوسية(3) بين المسلمين اليابانيين حول هذه القضية. فلم تكن لديه أي مشكلة مع ترجمة لفظ “الله”، وكان يشير إليه بـ “神 – كامي” (وأحيانًا بـ “真主 – شينشو” أي “الملك الحق”) وكان يقارن ذات الجلالة بمصطلح “كامي” الياباني دون أي تحفظ. بل إن تاناكا شبه التعبير الإسلامي بأن الله لديه تسعًا وتسعين اسمًا (الأسماء الحسنى التسعة والتسعون) مع القول الياباني بأن اليابانيين لديهم ثمانية ملايين إله، كلهم مندرجين تحت الإله “天之御中主神 – أمى نو ميناكا نوشي نو كامي (الإله الذي يحكم وسط السماء)”. فشرحَ أوجه الشبه بين تلك الأسماء والتسلسل الهرمي لآلهة اليابان، كما أشار إلى نقطة مهمة وهي أن القِيمَ العليا للإسلام تتشابه مع “طريق الكامي” (الطريقة اليابانية).

وقد بات شائعًا اليوم في اليابان أن يشار إلى الله بـ “神 – كامي” ويشار إلى الكيان المسمى “神 – كامي” كأنه محل موضع المقارنة كما فعل تاناكا. وعلى سبيل المثال، فإننا بتنا نرى شروحًا تقول: “إن الإسلام يعتبر الله هو الكامي الوحيد، وهذا مختلف عن وجهة النظر اليابانية للدين، التي تؤمن بتعدد الكامي”. وتصور عامة اليابانيين أن “الله” هو “كامي” عند للمسلمين صار أمرًا طبيعيًا جدًا.

وهناك أيضًا من يربطون الذات المقدسة “الله” بكيان إلهي معين في اليابان، مثلما فعل كسفاريوس حين سمى “الإله” بـ “داينيتشي”. على سبيل المثال فإن ياماوكا ميتسوتارو(4) (1880 – 1959)، وهو مسلم ياباني، شرح “الله أكبر” هكذا: “إنه أماتيراسو أوميكامي، الكامي الحقيقي الوحيد، وهو ضمير تشريف لله”. ووفقًا لشيمانو سابورو (1893 – 1987)، فإن ياماوكا قد قارن الله بـ “أميتابها – البوذا أميدا”.

أما أروغا بونهاتشيرو (1868 – 1946)، وهو مسلم ياباني معروف بجهوده في نشر الإسلام في اليابان، اعتبر الله “الإله الأوحد” (كما يعتبر الذات المقدسة)، أي اعتبره الكامي “أمى نو ميناكا نوشي – الإله الذي يحكم وسط السماء”.

كانت نظرة أروغا نظرة ودودة في غير محلها كنظرة تاناكا فيما يخص العلاقة بين الروح اليابانية والإسلام، وكان يرى أن الإسلام هو “أفضل دين يناسب الشعب الياباني” و “يناسب روح بلادنا منذ تأسيسها”.

ولم يُعرِّف الله أنه الكامي أمى نو ميناكا نوشي فحسب، بل أشار بإيجابية بموقفه تجاه الإمبراطور والعائلة الإمبراطورية، وجادل بأنه لا يوجد تناقض بين التفاني في العقيدة الإسلامية والتفاني في الهوية الوطنية اليابانية. كما فرَّق بين “احترام” السلف الأعلى لليابان أماتيراسو، والإمبراطور، والعائلة الإمبراطورية بكمالها، وبين “تقديس” “الإله الحقيقي الواحد” (الله)، وذكر أنه من الطبيعي حتى للمسلمين أن يحترموا هذه الذوات.

بالمناسبة، قد تبدو فكرة مساواة الكامي الشِنتوي “أمى نو ميناكا نوشي” مع مفهوم “الله” عند المسلمين أمرًا لا يدخل العقل من منظور اليابانية الحديثة، حيث باتت الروح اليابانية (الشِنتو) تعبر عن تعدد الآلهة عند الأغلبية. ولكن يقال إنه في حركة “فوككو شِنتو – الدعوة للعودة للشِنتوية القديمة” في زمن هيراتا أتسوتاني، وُصِف أمى نو ميناكا نوشي بأنه ذات توحيدية خالقة، كما يُوصَف الله. وقبل وأثناء الحرب العالمية كان هناك جدل بين نصارى اليابان في مسألة مساواة أمى نو ميناكا نوشي بمفهوم “الله” النصراني. أي أن فكرة تعريف “الله” بأنه “أمى نو ميناكا نوشي” ليست من بنات أفكار أروغا وغيره من المسلمين.

بوذا 仏 إلا… الله؟ كيف يفهم مسلمو اليابان مفهوم الألوهية في الإسلام6 لا بوذا (仏) إلا… الله؟ كيف يفهم مسلمو اليابان مفهوم الألوهية في الإسلام

القول بأن لفظ الجلالة "الله" لا يمكن ترجمته لكلمة أخرى

يمكن القول أن تاناكا وأروغا قد اتبعا استراتيجية مشتركة في ترجمة لفظ “الله” رغم أن السياق كان يحدد الفرق بين استخدام لفظ “كامي” أو “أمى نو ميناكا نوشي”. وعلى نقيض هذين الإثنين، فإن عضو الجمعية الإسلامية اليابانية الكبرى(5)  هارا ماساو (1882 – 1972) أفاد أن لفظ “الله” لا يمكن ترجمته إلى اليابانية. لم يكن هارا مسلمًا، لكنه كان قوميًا متعصبًا للشِنتو الوطني.

إذ يقول: إن كلمتي “الله” و”الإله” تحملان معنى مختلفًا تمامًا عن “الكامي” في اليابانية. لذا لا يصح استخدام “كامي” ترجمة لـ “الله” الذي يراه المسلمون “الإله” الحق. والصحيح أن نسمي الله “الله”، والإله “إله”، والكامي “كامي”. يجب نطق كلمة التوحيد في الإسلام كما هي بالعربية “لا إله إلا الله”، ولا يصح ترجمتها إلى اليابانية بقولنا “لا كامي إلا الله”. وذلك لأن الله لا يدخل ضمن نطاق كلمة “كامي” اليابانية.

ربما يعد هذا القول هو القول المعاكس لقولي تاناكا وأروغا، لكن بعد التدقيق في كلام هارا تتضح نقطة لنظرة ودودة في غير محلها متخفية لتصنع توافقًا بين الروح اليابانية والعقيدة الإسلامية. إذ لأن هارا فصل مصطلح “الله” عن مصطلح “كامي” وجعلهما مختلفين، قال بأن المسلمين الذين يعبدون الله لأنه الكائن الأسمى المطلق، قد يقرون في نفس الوقت ويقدسون كيانات مختلفة تسمى “الكامي” في اليابانية. فقد فصل مصطلحي “الله” و”الإله” عن “الكامي”، ولم يعودوا يفيدون نفس الشيء. أي بالمختصر فإن هارا يرى تقديس ما يسمى في اليابانية “كامي” لا يتعارض مع الإيمان بالله، أي الإله الواحد الأحد. وقد اعترض جمع من العلماء على كلام هارا. لكن قوله هذا كان له سبب وقصة تاريخية في الأصل.

فبعد الحادثة المنشورية (حادثة موكدين)(6)، واجهت الإمبراطورية اليابانية مشكلة في السيطرة على المسلمين. فهؤلاء المسلمون الذين صاروا رعايا لديهم يؤمنون بأن الله خالق السماوات والأرض هو الذات الوحيدة المستحقة للعبادة، وهذا لا يتوافق مع إقرارهم بأن الإمبراطور هو الكامي الفعلي.

إذ يذكر تاكوتشي يوشيمي (1910 – 1977) في مذكراته التي تصف سياسة اليابان تجاه المسلمين في البر الرئيسي كلمات شاب ياباني كان يدرب المسلمين في مونغ جيانغ (الجزء المركزي من منغوليا الداخلية في الوقت الحاضر). كانت مهمة هذا الشاب أن يوجِّه المسلمين لزيارة الأضرحة، وفي حين أنه كان “يتفهم أن عقيدة الهوي (مسلمو الصين) هي أكثر عقيدة تناسب هذا الشعب” كما يقول، إلا أنه كان حريصًا على القول إن: “كامي اليابان أعلى حتى […] من كامي الهوي (أي الله). أريد إقناعهم أن كامي اليابان أعلى”. فيذكر تاكوتشي أن معاناة هذا الشاب ترمز إلى صعوبة احتضان المسلمين رعايا لدى اليابان، إذ هم يؤمنون بأن خالق السماوات والأرض هو “الكامي” الوحيد، أما الدولة فإنها ترى الإمبراطور “الكامي” الذي يحفظ الاستقرار.

ولعل أحد أسباب تكون هذه الصعوبة هي وضع “الله” تعالى مساويًا مع الكلمة اليابانية “كامي”. فلو أن قول هارا بمنع الترجمة كان الغرض منه التخلص من هذه المشكلة والحفاظ على المسلمين في إطار الدولة اليابانية، فربما يعتبر “حلًا وسطًا” معقولًا. بل إن هارا قال أيضًا: “يجب على الروح اليابانية أن تحتضن العالم الإسلامي وتوجهه. لا يجب أن يكون هناك خوف أو نفور منه. أحسب أن شعبنا، في ضوء الروح السامية العريقة لبلدنا، يجب أن يحتضن الإسلام ويتسلم قيادته”. وهكذا أصر على الإمبراطورية أن تتفهم وتحضن وتقود المسلمين. لم يكن عمل هارا رأيًا شخصيًا فقط، بل كان أيضًا مطلب العصر. فلو نظرنا إلى الجزء المفاهيمي فقط من رأي هارا لبدى لنا تقريعًا، لكنه قد يكون حلًا وسطًا عمليًا في مواجهة الخيارات المحدودة.

اتجاهات ما بعد الحرب العالمية الثانية

أحد العلماء الذين أعادوا النظر في ترجمة لفظ “الله” بعد الحرب العالمية الثانية هو عالم الأنثروبولوجيا الاجتماعية أوتسوكا كازو (1949 – 2009). وقد لخص رأيه في مقالته: “الله، الكامي، والله الكامي”. فبين في مقاله، مشيرًا إلى ما وصل إليه سوسور وماروياما ماساو، أن ترجمة “الله”، المعبود الوحيد في الإسلام، إلى لفظ “كامي” في اليابانية أو “الله الكامي”، سيُلغي التفرد الدلالي المتأصل في أصل الكلمة العربية “الله”. ويذكر في خلاصته أنه من الأفضل ترك الكلمة كما هي وكتابتها ونقحرتها بالكاتاكانا (アッラー). أي أنه لا حاجة لترجمتها، وهذا مشابه لموقف هارا.

قول أوتسوكا بأن كلمة “الله” يجب أن تنقحر بالكاتاكانا بدل ترجمتها لقي قبولًا على نطاق واسع، وصار الرأي المأخوذ به هذه الأيام. والحق أنه قول قيم، فقد قدم براهين وحججًا كافية. لكنه لم يُصرف اهتمامًا كبيرًا حول ترجمة لفظ “الإله”، أي هل ترجمته إلى “كامي” مقبولة؟ أو بعبارة أخرى، هل هو مقبول أن يوصف الله بأنه “كامي”؟ ما زالت هذه النقطة موضع تحدٍ للمسلمين اليابانيين.

كما أشرنا أعلاه فإن عقيدة الإسلام هي اعتبار الله “الإله الحق” (الإله المستحق للعبادة). وملخص هذه العقيدة موجود في كلمة التوحيد “لا إله إلا الله”. وما دام أن كلمة “الله” هي الوحيدة من جزء الشهادة الذي نُقْحِرَ إلى الكاتاكانا، فيجب النظر في ترجمة كلمة “إله” التي تشرح بشكل مباشر وأساسي معنى وجود لفظ “الله” في العبارة اليابانية “الله نو هوكاني كامي وا ناي”. فإن لم نترجم لفظ الجلالة العربي “الله” إلى “كامي” ونقحرناه، فكيف نصنع بكلمة “إله”؟ هل نترجمها إلى “كامي” أو إلى كلمة أخرى؟ هل نترجم كلمة التوحيد “لا إله إلا الله” أنها “لا كامي إلا الله”؟ لم يكن هناك نقاش حقيقي في هذه القضية بين المسلمين الناطقين باليابانية أو العلماء.

بوذا 仏 إلا… الله؟ كيف يفهم مسلمو اليابان مفهوم الألوهية في الإسلام3 لا بوذا (仏) إلا… الله؟ كيف يفهم مسلمو اليابان مفهوم الألوهية في الإسلام

هل يصح أن نسمي "الله" بـ "هوتوكي - 仏 (بوذا)"(7) ؟

لا ريب أن ترجمة الكلمات مطابقة بين اللغات هو وهم، فمهما علت دقة الترجمة، سيكون هناك اختلاف دلالي بين الكلمة المترجمة وأصلها. وهذا أمر لا مفر منه. ولكن لأن الترجمة ليست عملية نقل كلمات فردية بين لغة وأخرى، بل عملية تمرير نص بين لغتين، يمكن تعديل الاختلافات الدلالية الناتجة عن الترجمة الفردية وسد الثغرات في ترجمة النص كاملًا.

إضافة إلى أن قبول كلمة “كامي” كمقابل لكلمة “God – الله في الإسلام والنصرانية واليهودية” صار أمرًا راسخًا في اللغة اليابانية يصعب تغييره. بل ربما هو أمر مستحيل. إن كان هذا هو الحال، فقد يئول بنا إلى أن كلمة “إله” ليس لها مقابل إلا “كامي”. على أقل تقدير فإن كلمة “كامي” هي أقل كلمة قد تسبب كُلْفَة لمتحدثي اليابانية اليوم.

ولكن إن نظرنا إلى كلمة “إله” كأنها “كامي” دون تمحيص لها، فإننا نصبح تدريجيًا دون وعي قابلين أن كلمة “كامي” هي الترجمة الصحيحة لكلمة “إله”. بل إنه من النادر إن ينتبه الناس إلى وجود اختلاف دلالي بين “الإله” و “الكامي” عند الحديث عن “الإله” في المفهوم الإسلامي.

ما الذي يمكننا فعله لنذكر الناس بوجود هذا الاختلاف؟ ربما ما زال بوسعنا إيجاد ترجمة بديلة. فعدى استخدام مصطلح “كامي” ترجمةً لكلمة “إله”، فكلمة “天 – تن: من في السماوات” (بمعنى الإمبراطور الأعلى 上帝) هي أحد الكلمات التي قد تُراعى في هذا السياق. وإن كانت قد أصبحت كلمة ميتة في اليابانية الحديثة، فهذا لا يعني أنه لا يمكن استخدامها. لكنِّي أريد أن أضع في الاعتبار إمكانية استخدام كلمة “仏 – هوتوكي (البوذا)” لكونه موضع عبادة في اليابان، مشابهًا للـ “كامي”.

إن تبديل الكلمة الأجنبية المترجمة من “كامي” إلى “هوتوكي” أو العكس، لم يكن أمرًا محالًا في ضوء العلاقة الغامضة والمتغيرة بين الكلمتين في تاريخ ديانات اليابان. فقد ذكرت في بداية المقال أن ترجمة هيبورن للإنجيل كانت أحد الأناجيل التي عرَّفت كلمة “كامي” أنها المقابل لكلمة “الله” في اليابانية. مترجم هذا الإنجيل، جيمس كورتيس هيبورن (1815 – 1911)، وضع قاموسًا يابانيًا-إنجليزيًا أسماه “وا-إي رينشو” (القاموس الياباني الإنجليزي). في مدخل كلمة “God” في هذا القاموس، وضع الكلمات المقابلة اليابانية لها عند الشِنتوية “كامي” و “شين”، وعند البوذية “هوتوكي”. الفارق بين كلمة “God – الله” و “كامي” و “هوتوكي” كان في الأصل (على أقل تقدير في نظر هيبورن) معدومًا تقريبًا. أي يجوز افتراض أنه لو استخدم كلمة “هوتوكي” يومَ أن ترجم الإنجيل بدلًا من “كامي” لترجمة مصطلح “الله”، لسار الناس على ترجمته ليومنا هذا، واعتبروا “الله” مساويًا للـ “هوتوكي – البوذا” بدل الـ “كامي”.

إن معنى كلمة “إله” هو “المعبود” كما ذكرت أعلاه، لكن طبيعة موضوع الولاء، والكيان الذي يلجأ إليه المرء ويطلب المساعدة منه في التقاليد اليابانية لم يكن في الأصل الـ “كامي”، بل الـ “هوتوكي – بوذا”، وهو ما كان يفكر فيه اليابانيون دائمًا. من هذا المنظور فقط، فإن طبيعة كلمة “إله” أقرب لكلمة “هوتوكي” من كلمة “كامي”. إن بدلنا كلمة “إله” بكلمة “هوتوكي” في كلمة التوحيد فستصبح “لا هوتوكي إلا الله – أو لا بوذا إلا الله (حاشا وكلا)”. بل ربما حتى يُقال في إطار الترجمة “لا يوجد بوذا، ولكن يوجد البوذا الأعظم”. لكن هذه ترجمة خاطئة بالطبع. لا أعتقد بأن هذه هي الترجمة الصحيحة. فالـ “بوذا” هو مفهوم فريد من نوعه للبوذية، ويشير أساسًا إلى وجود إنسان حقق الاستنارة بالممارسة والتأمل. ولا تعتبر كلمة مناسبة لتحل محل كلمة “إله”.

وكذلك كلمة “كامي” فهي في الأصل كلمة فريدة تطورت في النظرة اليابانية الروحانية للعالم. فكما يمكن للبوذا (الهوتوكي) أن يصبح “كامي”، يمكن أن يصبح الناس “كامي” أيضًا. وليس البشر فحسب، بل حتى الدواب والطيور والنباتات والحشرات قد تتحول إلى كامي.

إن الترجمة المقترحة “لا هوتوكي (بوذا) إلا الله” ترجمة مضللة جدًا. ولكن هل سوء الفهم الناشئ من هذه الترجمة أكبر من سوء الفهم الناشئ من القول “لا كامي إلا الله”؟ فإن أنكرنا أن الله تعالى هو “هوتوكي – بوذا”، فلا يمكننا أن نقبل ببساطة أن الله هو “كامي” أيضًا.

الهوامش:

  1. “بوذا” باللغة السنسكريتية تعني “المستنير” أو “المستيقظ”، وهي ليست اسم عَلم، بل هي صفة وأعلى مرتبة يمكن أن يصل لها المرء في البوذية. 
  2. يُرجى الاطلاع على مقال مفهوم معقد في اللغة اليابانية “الله (GOD) أو الكامي” لتفصيل أكبر حول الفرق بين الكلمتين.
  3.  التفاؤل الذي يكون في غير محله، أو التفاؤل الساذج. 
  4. يعرفه البعض باسم “ياماوكا كوتارو”، أو “عمر”، وهو أول مسلم ياباني حجَّ في التاريخ المُسجَّل. 
  5. منظمة بحثية إسلامية كانت موجودة في السابق (1938-1945) في إمبراطورية اليابان، والهدف منها تعريف الشعب الياباني بالإسلام، والبحث في حلول للتكيف في التعامل مع المسلمين ومهام أخرى. 
  6. حادثة خطط لها الجيش الياباني ذريعةً لغزو الجزء الشمالي من الصين المعروف بمنشوريا عام 1931. 
  7. “هوتوكي” لا تعني بالضرورة “بوذا”، لكنها غالبًا تحمل معنى صفة البوذا، المشروحة في الحاشية الأولى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى